علي حسن الفواز: الجواهري والقصيدة التظاهرية

0

استثنائيةُ الجواهري في الحضور الثقافي، ليست بعيدة عن فخامته الشعرية، إذ اقترن خطابها طوال عقود طويلة بما أسسته من تعاليات ترسخت في الضمير الجمعي، وفي فاعلية الحضور الشعري، بوصفها من أبرز العناصر التمثيلية التي أكدت قوة فاعليته الثقافية، التي جسدتها ظاهرة الجواهري الشعرية في سياق الاجتماع العراقي، إذ تحوّل هذا السياق إلى قوةٍ متحركة، تتنامى مع الاجتماع الثقافي، وعلى نحوٍ جعل من قصيدته إشهاراً للتظاهر السياسي، وللاحتجاج الاجتماعي، مثلما جعلها عنوانا للأنس، والتداول الشعبي، فضلاً عن جعلها «شهادة» تستبطن رؤية المخفي و«المسكوت عنه» في يوميات الواقع العراقي، وفي صراعاته السياسية والاجتماعية، وعبر الكشف عما تجوس به قصيدته من أسئلة غامرة، بوصفها قصيدة زمن سياسي واجتماعي، وقصيدة لا يمكن فصلها عن «تاريخ الجزالة في الشعرية العربية.
علاقة الشاعر الجواهري بالواقع، لم تنفصل عن علاقته بالوعي الشعري، والتلازم بينهما جعل قصيدته وكأنها دليلٌ، وموجّهٌ قرائي، لاستقراء يوميات اللحظة العراقية، عبر مقاربة أحداث، أو عبر شخصيات وطنية وتاريخية وعلمية، اصطنعت لها قصائده حضورا متعاليا، جعل من فكرةِ «الشهادة» أي شهادة الشاعر ورؤياه، تدوينا وفعلا ودافعاً، يكشف من خلاله، أهمية الموقف السياسي والموقف الثقافي، إذ يؤشران حضور الشاعر في النسق الظاهر أكثر من النسق المُضمر ، مثلما يؤشران وعيه العميق لمحركات القوى الاجتماعية والسياسية، وطبيعة تشكلاتها، ومدى علاقتها بالصراع السياسي، أو بالتحول الاجتماعي في المدينة العراقية.
قراءة الجواهري أنثروبولوجيا، قد تكون هي قراءة نسقية للمدينة السياسية، عبر صراعاتها، ومظاهرها الاجتماعية، ومن خلال لغة أرادها الشاعر أن تبدو صاخبة، وأكثر تمثيلا للتاريخ، حيث جعلت من شعريته مجالا لعلاقة القصيدة بالاجتماع، وبفاعليته في الكشف والنقد، وفي التواصل والإحياء، وهي ما دعت طه حسين لنعته بـ«شاعر العرب الأكبر» من منطلق حيازة قصيدته على أرخنة البلاغة والعمق، وعلى غلبة روح النقد فيها..
هذا التوصيف لا يلغي حساسية الشاعر إزاء واقعه العراقي، ولعلائقه مع الأنساق السياسية الصراعية فيه، التي تتطلب معاينة الشاعر الناقدة، وفي اتجاه تقصٍ عميق يُبرز أهمية التلازم ما بين الخطاب الشعري، والتمثيل الأنثروبولوجي، فالشاعر الجواهري هو ذاته البلاغي والسياسي والثقافي والإعلامي، وهي توصيفات تضع الحمولة الشعرية له إزاء علائق وجودية، يؤشرها الجواهري في أغلب قصائده، من خلال الإهداءات، أو تذييلها بتواريخ كتابتها، وهي دلالات تدخل في سياق التمثيل الرمزي لما يسمى بـ»النصوص المجاورة» أي إن الإهداء يتحول إلى شيفرة نصية، والتاريخ يؤشر علاقة القصيدة بالحدث والفكرة وبالشخصية ذاتها..
فخامة الجواهري الشعرية ليست ذات خلاف واضح، فهو حامل لرمزية الأثر الشعري العربي، وحتى لصورة «الفحولة الشعرية» وبقدر ما أثارت هذه الحمولة جدالا في بعض الأوساط الثقافية، لكنها ظلت تملك قوتها، من خلال القوة الأسلوبية والبلاغية التي تستبطنها قصيدته، لكن مقاربة قصيدة الجوهري بوصفها «مجالا ثقافيا» هي ما يحتاج إلى الإضاءة، إذ يضعنا هذا المجال أمام مقترحات قرائية، وأمام كشوفات يمكن من خلالها قراءة الحدث، وقراءة المخفيات التي أهملها المؤرخون، لاسيما في قصائده التي ارتبطت بأحداث سياسية كبرى، بدءا من ثورة العشرين، وصولا إلى انقلاب بكر صدقي، وإلى انتفاضات الشعب العراقي عام 1948/ 1952، 1956، 1958، التي من خلالها يمكن الكشف عن معطيات تتجسد عبر تمثيلها الرمزي والسياسي، وعبر فاعليتها في تحويل الخطاب الشعري إلى موقف واحتجاج، إلى رؤيا سياسية تستبطن روح الرفض، وإلى ممارسة نقدية لها دورها الأخلاقي والوطني والإنساني في صناعة التمظهر الثقافي لـ»الرأي العام» ولقوة الحمولات اللغوية في سياقها الاستعاري والتصويري وفي استنفار الذات العراقية «المقموعة» في مواجهة عوامل الضعف والرثاثة.

الجواهري والقراءة الأنثروبولوجية

قد يكون الشاعر محمد مهدي الجواهري عابرا للتوصيف، ولحديث الأجيال الشعرية، لكنه ليس عابراً في سياق علاقته الفاعلة باليوميات العراقية، وبالشواهد السياسية، إذ فرضت هذه العلاقة توصيفاً متعالياً، على مستوى إبراز ظاهرة الجواهري الخطابية، بوصفها الجامع كظاهرة اجتماعية، أو كظاهرة ثقافية، وعبر مقاربةٍ تكشف علاقة الشاعر المتواترة بالتاريخ، وبالأيديولوجيا، أو بالنُخب الثقافية، فالجواهري كان يضع تلك العلاقة في مستوى علاقته بالشعر، فهو الصحافي الذي جعل من جريدته «الرأي العام» جزءا من حراك سياسي صاخب، ارتبط بصراع الجماعات السياسية، داخل النسق الحاكم، وربما داخل المؤسسات العسكرية والحزبية، فانحاز إلى الجنرال بكر صدقي في انقلابه العسكري عام 1936، حتى أنّه غيّر اسم جريدته إلى «الانقلاب» وصولا إلى اقترابه من الحكومة التي شكّلها حكمت سليمان، بعد الانقلاب بعد اغتيال وزير الدفاع الجنرال جعفر العسكري، والاطاحة بالجماعات القريبة من السياسي العتيد نوري السعيد.
الشاعر الجواهري لم يكن أيديولوجيا، ولا حتى ثورياً بالمعنى النمطي، بل كان «مثقفاً نقدياً» يتعإلى خطابه الشعري، بموازاة تعالي روح النقد التي تصطخب في أعماقه، وحساسيته في «شعرنة التمرد» فهو يستكنه حيوية المتمرد الحوزي، والمتمرد الاجتماعي، وهذا ما جعله الأكثر تمثيلا للشاعر الباحث عن «فكرته الفاضلة» أو «مدينته الفاضلة» المدينة التي تتمرد على رمزية الاحتلال والاستعمار، وعلى العلاقة المريبة مع الآخر، وحتى على علاقته من الحكومات الملكية والجمهورية، فكان يمارس وظيفته النقدية، وكأنّه يحتج على أيّ فكرة للهيمنة، وللخضوع، وهذا ما جعله يعيش الشعر وكأنه يلبس قناع الشاعر الاحتجاجي، مثلما يعيشه وكأنّه الشاعر الحسي الذي يجعل من الجمال صنواً لفكرته عن المدينة، ويعيش التاريخ وكأنه يتواصل مع أرواح شعرائه القلقين، الذين جعلهم الشعر أكثر حضورا من الملوك والأمراء والفقهاء..

الجواهري وسؤال التنوير

علاقة الجواهري بفكرة التنوير تنطلق مع روحه المدينية، ومن رفضه الدائم للاستبداد والقمع، إذ يكون التنوير صنو الحرية والسلم، مثلما يكون صنو الوعي ومسؤوليات التنمية، وشيوع المعرفة، وهذا ما جعل الجوهري أكثر حضورا في توصيفات اليسار العراقي، وفي يوميات الأنتلجنسيا العراقية، وعلى نحوٍ جعل من شعريته وكأنها شاهد قرين على حيوية الخطاب الثقافي، وعلى حضور الشاعر في المجالس، وفي البيوتات، وفي نقد المظاهر السلبية، وفي الدفاع عن المرأة العراقية، فضلا عن حماسه في الدفاع عن الحريات العامة والحقوق، بما فيها الحقوق السياسية، حدّ أن قصيدة الجواهري الفخمة، والمتعالية في خطابها، تحولت إلى نشيد يومي للجمهور، وهي ما جعلت من الجواهري الشخصية التظاهرية البارزة في أغلب تظاهرات بغداد خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
الجواهري التظاهري، لا يعني توصيفا سياسيا فقط، رغم الطابع العام لهذه التظاهرات، بل يعني من جانبٍ آخر، توصيفا اجتماعيا، وتحريضا على تلازم الموقف الشعري بالموقف الأخلاقي، وفي اتجاهٍ يعمد إلى تسويغ قبول الأفكار الثقافية، وإلى التعاطي معها، وكأنها جزء من مواقفه، ومن حاجاته، ومن قاموسه، وبالقدر الذي يجعل من «الخطاب الشعري» نظيرا للخطاب الوطني، بوصفه خطابا داعيا لشيوع الحريات والتعليم والتنوير، ولمواجهة عوامل الضعف التي عملت الحكومات على تكريسها، وعلى عزلها عن الأسئلة الوطنية، التي جعل منها «اليسار العراقي» عنوانا لتظاهراته واحتجاجاته، وهو ما عمد إليه الجواهري وهو يخاطب الجمهور التظاهري، أو يخاطب الجمهور النخبوي بالروح المتوهجة ذاتها، وهذا ما يؤكد احترامه لقصيدته، ولرؤيته التي لا تعزل مواقفه في الشعر، عن مواقفه في الحياة، ولا عن موقفه في قضايا الوطن، عن مواقفه في الحب والجمال، ولا عن سيرته وهو يجوب المدن البعيدة، حيث تحضر مدينته دائما بوصفها الرمزي والإنساني، والتي لم يغادرها إلا على كراهة كما يقول في قصيدته الخالدة «يا دجلة الخير».

*القدس العربي