ضوءٌ للأيّام البعيدة
ما أبهى الرحلةَ،
حين أرى الشجرَ يلوِّح أنهُ ذاهبٌ لمدينتكِ،
صرتُ أطمئِنُّ
مثل حقلٍ تصافحُهُ الريح على مهلٍ،
صرتُ أجسُّ بحواسّي ما لا تصِله المسافة
وما لا يفتحهُ الهواء مِن رسائل النظرِ العديدة،
في الصباحِ تهِبين حياةً جديدةً للنافذةِ،
يستيقظُ عصفورٌ في حديقتِنا،
يُغرِّدُ قريبًا منّي، في حكمةِ العصافيرِ التي تفتحُ بعينِها ضوءَ الشمسِ والأغاني،
يُغرِّدُ في خجلٍ
ويضوعُ صوتُهُ هادئًا مثل قطرةِ ماءٍ تُصحّي ياسمينةً مِنّ نومِها.
قريةٌ تنبتُ في حقلِ رمّانٍ، بينما تُعجبكِ فاكهةٌ في الحديقةِ المجاورة،
قريةٌ، سقفُها يكاتِفُ الغيم
وأرضُها هوىً يجمعُهُ جناح الربيعِ المسافرِ
ما زال يسكنُ داخلي، قرويًّا،
يحبُّ أرضهُ، ويتبعُ الحنينَ الذي يجرِّدهُ،
قرويٌ، يهمي كل صبحٍ مع السواقي
ويُشارِكُ ما في الأرضِ من شوقٍ ومن زرعِ.
يُغرِيني الآن هذا الطير، ويُعلِّمُني،
ألّا أحومَ بعيدًا عن بقعةِ الضوء،
حيثُ غيابكِ المترسّبُ،
يكتنفُ الأملَ ويبعثُني مِنّ جديد.
■ ■ ■
مثل وردة تلاحقها الرائحة كل يوم
أنا مشغولٌ بِما تحملين أيّتُها الحقيبة
كان خطأً فادحًا
أن أُخرج كلَّ ما في أيّامي وأخبِّئهُ بكِ
كعاشقٍ تسرّحه يد حبيبته كما تشتهي،
لم أحسب أن تكون لحظةً واحدة
ملّت الرحلة واختارت السكون..
أنا الآن أغرقُ
مثل وردةٍ
تلاحِقها الرائحة كل يوم.
■ ■ ■
سهرة برفقة شجرة الزيتون
مثل مسافرٍ يحلم بالضوء
أتطلّع إلى لقائكِ،
وأفكّر
هل المسافةُ تُشبِعُها عيناكِ في بالي،
هي الرِّحلة أن أفكّر فيكِ.
أجلسُ على طاولةٍ في الزاوية،
طاولة بلّوطٍ ماتت حتى تضعي يدكِ عليها،
هي الأشياء التي تفنى حتى تحيا من جديد،
أنتظركِ هادئًا مثل طفلٍ لاهٍ بحلوى وأمّه ما زالت في الخارج
وفي الذاكرةِ بابٌ لا يكفّ عن الصرير،
هي الفوضى التي تكشفُ المعنى،
تصِلين عاصفةً توقظ كلّ الموجودات،
تصِلين إليّ، أنا شجرة، تقطفين قلبي وتجلسين،
هي الرغبةُ التي تنشدها الغابة حتى تبقى نضرة،
أُحدِّثكِ… مرحبًا، تردُّ عليَّ زجاجة العطر المعلّق،
يردُّ عليَّ التوت في ثلّاجة الطعام،
ألِمِثلِها تكتفي؟
أبالكلِماتِ تبخل؟
لوّنْ أيّامك بالقول واحملْهُ عطرًا حين تنبذك المنافي،
أردُّ في سرّي هو الصمتُ الذي يُطلق المجاز
هو التأملُ الذي يُكمل اللوحة
تخبرني الموسيقى رغم انتهائها بأنّكِ كاملة،
هو سرٌّ يطلقه الشوق على مهلٍ كي يؤثّث المكان بكِ،
هو سرٌّ لكنّه يخرج دون قصدٍ، الغايات تفضح.
جئتكِ من أقصى المدن، جئتكِ من حديقتنا كي أكتمل،
الآن مللتني شجرةُ الزيتون، وهمست لي وردة الصباح النائِمة:
اذهب إلى النوم، سوف تلقى الصباح موعدًا وتسافر.
■ ■ ■
ما يخبِّئه الطريق وتعرفه المارّة
أتأمّل الطريق
كيف يضعُ عثرة وهو بهذا الوضوح،
كيف يمنعُ الوصول
وهو يفتح ذراعيهِ للرغبة،
يحثّني هذا على أن أضيّعه
وأبحث عن وسيلةٍ جديدة كي أصل
كأنْ أجلس في غرفتي،
أرتِّب أيّام حياتي
أضع اللحظات بحلوِها ومرِّها على الطاولة
أنزع رأسي بصخبهِ وصمتهِ فوق الوسادة
وأذهب مثل أيّ طفلٍ
لا يعرف الطريقةَ،
لكنه يعرف جيدًا كيف يصل إليكِ.
■ ■ ■
غواية الحقل
قرب الحقلِ، تتنزّهين شجرةً مُضيئة
وكأن العالم لم يحترق
لا أظنُّ أنّهُ يهمُّكِ
أن يفرّط الكون بغاباتهِ
فأصدقاؤكِ ما زالوا يقدّرون الطريق.
عصفورٌ يأتي ليروي لكِ
مجازفة النهر التي تخشينها،
وريحٌ ما زالت تذكّركِ
بأنّ على كتفكِ متّسعاً للهروب
وغيمةٌ تتركُ الحكايات كُلّها
وتؤمِنُ بأن على ساقكِ يخطّ الماء رحلته،
وحقلٌ ما بقي يحدّثكِ،
مثل عودٍ في كلّ مرةً يدنو إلى البيتِ.
*العربي الجديد