“أُذناه سمعًا للصدى،
رجلٌ، أعيانُه وَفيات”.
إنّ أعمق موضوع واجه الإنسان ولا يزال مسيطرًا عليه هو، السلطة، مفهومها، تدبيرها، والتماهي مَعها كقوّة سياسيّة واجتماعيّة وإبداعيّة، فأينما يَحلّ الخراب أو الإعمار، فثّمة تدبير سلبي أو ايجابي لها؛ يتعلّق الأمر أيضًا بسلطة الأب، سلطة الموديلات والتقنيّة وسلطة الحبّ وغيرها. ما يهمّنا هنا هو، سلطة الكتابة، التي تخوّل الكاتب، بحسب التقليد الأدبي الشائع (سابقًا) فرضَ نفسَه وصيًّا، وأن يكون واحدًا من تلك المركزيات التي تستهجنها الحداثة وتحاول تجاوز مفهومها السلفيّ.
قال فوكو ذات مرّة: “الفاشية موجودة فينا جميعًا، في رؤوسنا وفي سلوكنا اليومي، الفاشية التي تجعلنا نحبُّ السلطة”. وهكذا، ستكون الكتابة فاشيةً، إن هي تمرّكزت على السلطة لا غير، بل واستند الكاتب عليها فحسب، من دون الأخذ اعتبارًا بأقرانه وحلفائه ومرشديه إلى النصوص (قرّاء- كتب- حياة موازية). الكتابة الجديدة، تحاولُ تخليص الكتابة من السعي نحو الفاشية تلك.
“أراه
افتراقًا مع التحيّةٍ وتخليصًا لها من الهموم.
يتدبّر حبيبتَه، كإحاطة بالشمس وهي تذمّ مَشينَا، مدًّا شاسعًا لليابسةِ.
يتدبّر أصدقائَه كتدويرٍ للقنوات حولَ ما لا نفعَ له.
الاستنادُ عليه، كانتباهٍ للعصا وتذكيرٍ بها؛ تنقلُ الجروحَ إلى ما يفكر فيه.
ينامُ انسجامًا مع نشارة الأحلام (يؤدّبه النومُ، ما بين أخلاقِ الجبال، وأخلاقِ الاهتزاز).
شائعًا لدى الهاويةِ وعميقًا كقضاياها”.
1
تسعى الكتابة “الجديدة”، إلى تجريد الكاتب من أصله، كمواطن مركزي (أصلي)، وهكذا، تعتبره أجنبيًا في نصّه، بل ودخيلًا عليه، وهو غير متصرّف به إلّا بجانب مُتصرّفِين كُثر، منهم: القارئ، الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي أسهمت بكتابة النصّ، فالكاتبُ إذًا في جماعة أشخاص، وإمكانات، وظروف، وسواها. واستدعاء الخارج، يوسّع الداخل، بل ويبقي الكاتب أجنبيًا في نصّه ولغته. تتقلّص العملية الإبداعية، وتجنح نحو الروتين، بوجود كاتب يرفض “أجنبيته”. كان الكاتب في التقليد الأدبي السلفيّ يقول يا “أناي”، لكن الكتابة “الجديدة”، تعرض عليه القول: يا نحن! ليس بعيدًا عن مفهوم الصوفيّة حول الّحب والآخر، فلا يوجد (الأنا) إلّا بصفة الغيريّة(الخارج). أيهما أشمل وأنفع للإبداع، كاتب يكتب بأناه فقط ككينونة واحدة، أم كاتب يكتب بغيريته بمعنى الآخر؟
ربّما لا نستطيع تصوّر ما ورد أعلاه، إلّا إذا جعلنا مفهوم الكاتب يتّسع ويتطوّر ويشمل المُتصرفِين الآنفين، وذلك بالقول: الكاتب هو مؤلِّف؛ أي عندما يكتبُ فهو يطمحُ إلى اقتفاء توليفة، يستفيد فيها مِما قرأ سابقًا في ماضي القراءة وحاضرها، ومِمّن كانوا معه حياتيًا، يستفيد من المناخ والنباتات والحيوانات حتّى. توليفة، تشمله هو، والمُتصرّفِين معه بالنصّ كذلك؛ القارئ والظروف ولحظة التلقّي، وربّما الساعة التي نشبت فيها الحروب والفيضانات حينذاك.
المؤلِّف غريب في نصّه وحالما ينتهي من كتابته، يُصبح دخيلًا عليه، وخارجًا منه، وداخِلًا إلى نصّه مع آخرين.
يستعيرُ الكاتب حينئذٍ من الغريب والأجنبي والدخيل صفاته فلسفيًا وجماليًا وإبداعيًا.
“طوبى لمن يجعل الفراغ كنباتات فارهة،
ولليتم صفوفًا مرئية، مُسعِفًا الأنقاض بالجوهر. على مقاعدَ غير موجودة، سيجلسُ الغريب، لكنّه سيجلس أخيرًا.
لا نَعرضُ الأصليّ، لا نصاحبُ الجوهري،
نرحّبُ بالمزيّف ونجنبُ الحضيضَ العار.
نحنُ المجانيّة،
الاسترسال في الخرائب،
نستعيدُ القيمة المُضحّى بها”.
2
كان مفهوم الكاتب المركزي، والوجود المركزي والكتاب النقيّ، ولا يزال المُعين الأساسي للسلطات والإيديولوجيا: إذ تُشيد بالتماميّة والكمال والطلائع والقدوة، ثقافةُ أحزابٍ وطوائف وجماعات أدبيّةٍ كذلك، بينما تعتزّ الكتابة “الجديدة” بالثُلمة والتشظي والانكسار، فها هو الكاتب الفرنسي كليمو، يثني على الكآبة في كتابه “مديح الكآبة” مخالفًا التحليل النفسي، عندما ينظر إليها بوصفها عطبًا أو خللًا، بمعنى غير منتجة وعالة على المجتمع، كما أنتقد كلّ من دولوز وغوتاري، فرويد، كممثِّلٍ للتحليل النفسي الرأسمالي في كتابيهما المشترك “الرأسمالية والفصام: أوديب – مضادًا”، لأنّه حارب الرغبة خدمة لربّ العمل الذي يُريد من العامل يديه وجسده البيولوجي كآلة انتاج فقط ، من دون الاعتداد برغباته.
تعني الكتابة “الجديدة”، ذلك العمل في الورش التقليدية الكبرى؛ ورشة الحِدادة، ورشة تقطيع الحجر في المقالع الصخريّة، ورشة العجين والخبز وورشة الاعِمار؛ البناء والهدم (الأعمار لا يعني البناء فقط، بل إنّ الهدم هو عمران أيضًا، وهكذا، الانقاض والرذم والخردة مواد عمرانية أيضًا، مثلما تستعمّل راهنًا في الفنّ التشكيلي، تحت توصيف المتلاشيات والمُهمّل، أشار إلى ذلك ميشيل أونفري بـ “ميافيزيقيا الأنقاض). لكلّ ورشة نظامها وعملها، وينبغي على الكاتب المُشتغل لدى تلك الورش، تطوير عمله وآليات اتّصاله بالوجود، وأن يبقى دائمًا في علاقةِ عملٍ وتدريب وكدحٍ، أي يبقى، كالعامل في مهنته؛ كاتبَ ورشةِ البناء، وكاتبَ ورشة الحِدادة.. إلخ. يقول المِعماري العراقي رفعة الجادرجي: “العِمارة مهنة، وليس حرفة”، والفنّ، هو، ما يميزها عن سواها. الكاتب موظّفٌ لدى الكتابة، أي عامل – فنّان عند الصخور والحديد وأفران المُعجّنات.
أنا شخصيًا موظّف لدى القراءة والكتابة؛ اشتغلُ كعامِلٍ لديهما.
“كانَ عاملَ أدبٍ… يشتغلُ بإيعازٍ مِن الوردةِ كعاملِ مودَّةٍ،
كتضحيَةٍ مُهداةٍ للقفصِ
كإرضاءٍ للخرائبِ”.
هناك مسألة مهمّة، وهي مادّة الكتابة، أي المادّة التي يُشتغل عليها في الورشة:
نقول “المادّة” الشعريّة مثلًا، أسوةً بالمادّة في العمران من الأسمنت، والطابوق، والخشب، والملابس.. إلخ، وبمادّة الأحلام والذكريات، التي هي في اتّصال بالمستقبل وليس بالماضي كما هو شائع عن(الذكريات). ثَمّة مواد للتحطيم، ومواد سائلة في هيئة القمع؛ الماء الذي يسبّب الغصّ مثلًا، ومواد صلبة، قاسية، ولكنّها، تعاونُ المرءُ على التفاهم مع وجوده وتجعله من الوسائط، التي تستعمل يوميًا كالجسور والأرصفة والكمبيوتر والورق، فيكتسب صفاتًا من المواد الداخلة في صناعتها.) بينما المواد من أمثالها كالحديد والنحاس، تعطي إحساسًا بالخوف، إن هي أسهمت في صناعة آلات التعذيب. ثَمّة مواد ذات صَلة بالسلطة وبالمال).
3
يشملُ الشعر موادَّ متنوّعة وهي تختلف عن المواد الآنفة، ولكن ليس بمعنى أن الشعر يُقاطعها، أو غير معني بوجودها. بل هو يعمل على التخفيف من وطأتها، أو نشر عذوبتها وفوائدها.
المواد، أكانت في العمليّة الإبداعيّة أم الدّاخِلة في البناء والأجهزة وغيرها، يُمكِن تطويعُها وجعلها قابِلةً للحلم وللتحوُّل، فحلم مادّة الإسمنت التقليديّ، قد جعلها تتطوّر إلى مرِنة كما في الطابعة ثُلاثية الأبعاد. وهكذا، هو حلم الوردة والموديلات، ولكن لكلّ مادّة أسلوبها وشدّة أحلامها. مادّة الشعر هي كثيفة الأحلام.
“ندرك، أنّ مُعالجة العجين الأمثل يمكنها أن تُحلِّل نفسيًّا يدًا بتخليصها شيئًا فشيئًا من شُحِّها، ومن عدوانيّتها، بأن نُعطيَها شيئًا فشيئًا، ليفًا بعد ليفٍ عضَلَاتِ الكَرم”.
إشارة: يقول بودلير: “بقدر ما تكون المادّة، في الظاهر، واقعيّةً وصلبةً، يكون عمل الخيال لطيفًا ومثابرًا”، وردت القبسة في المصدر السابق.
“يمنعُ الخبزَ طعمَه جاعِلًا شأنَه كأدوارِ الحجر.
شأنُه:
ذو قضبانٍ والجزعُ من الضربِ أخٌ له، شأنُه ذو جسرٍ، ولكن هناكَ، مَنْ يملُّ مِنه، كما يملُّ من العابرين عليه، كتذكيرٍ بهم.
شأنُه:
ذو استعمالٍ معدومٍ، وذو جفافٍ. يستفيدُ مِنه، الدقُّ على السندان، والقضاءُ على الأصدقاء.
هو،
كتعبيرٍ عن حجارةٍ تتلفّت
كتعبيرٍ عن اختفاء السدود ونعمتِها
عن الامتناع من الأكلِ والنومِ”.
4
الوردة، “يجب” أن تبقى في أذهانِنا كريمةً وسخيّةً فحسب، وهذا التصوّر، يتعارض ظاهريًّا مع ما يقول باشلار أعلاه، ولكن وإمعانًا بتفحُّص رأيه، سنجدُ اتّفاقًا وليس معارضة: الوردةُ في الفكر الشعريّ، هي في إزاحات وتوريات متنوِّعة وإلّا لتعرقلت وانطفأت آليّة الشعر وخيالاته! أو على الأقلِّ لتحوَّلَ القاموس الشعريُّ إلى حجوم ومقاسات ثابتة. والفكرُ الشعريُّ، يتعاملُ مع الوردة على أنها جميلة وتخلِّصنا من البُخل والعدوانيّة عندما تضع نفسَها أو نضعها عند منزلة الخير، ولكن يُمكِن لها أن تكون شريرةً أو عدوانيّةً بيد الظالم استعمالًا، كما في عنوان بودلير “أزهار الشرّ”، أو في بعض التراجم” أزهار الألم”، وبالتالي، سيختلف التلقّي الجماليّ للوردة من شأنٍ إلى آخر، مرّة شريرة بيد الظالم ومرّة سخيّة بيد الكريم، إضافةً إلى أنّ باشلار كان يربط المادّة بعملها مباشرةً.
5
الأدب كالظاهرة، وهل للظاهرة زعامات؟
لا يختلف المركز عن صورة النهر الواحد الأسمى، مقترنًا بالقائد الأسمى، بينما قد تغير جذريًا مفهوم الكتابة، فليس من المعقول مثلًا، بأنّ قصيدة النثر، تهتّم بالزعامات والجماعات والسلالات، وإذا كان لابدّ للنصّ من سلالة، فهي سلالة الفجوات. النصّ كالفجوات، ليس بعهدة أحد، سوى مَن يهتّم به.
6
“يهمّه أن يكون كلّ شيء مكسوفًا، كما لا يعتدّ بداخله إلاّ غريقًا أو كحادثة انحسار.
كان امتدادًا للعتيقِ
ويسيرُ مع النهرِ كأنّه ماءٌ عتيقٌ
أراه،
انتشارًا بالماضي باتفاقٍ مع منَ يَقفله، وأراه ذا أغصانٍ باتفاقٍ مع ما يردّه إلى الدموع”.
*الترا صوت
هوامش
- منشورات دار “الجمل” في بيروت، من ترجمة عبد العزيز العيادي.
- “إلى الماءِ يسعى مَن يغصّ بلُقمةٍ، فقلْ أين يسعى مَن يغصّ بماءِ”؟ الشاعر، نصر بن أحمد بن نصر البَصري.
- نحن كبشر بيولوجيًا من لحم ودمّ، وذكريات وأفعال، إخلاص ووفاء، غدر، جشع وسخاء وإلى غير ذلك، هذه الصفات والأفعال، ليست بمنأى عن المواد التي نتعامل معها يوميًا مثل الحديد والبلاستيك والأشجار ومواد ووسائل السلطة كذلك. ثَمّة دراسة تقول بما معناه: المرأة الحامل، تُهيّأ لجنينها ولادة يسيرة ومستقبل خالٍ من التوتر، إن هي، عاشت وسط الغابات، وذلك بتأثير الأوكسجين والمناظر السعيدة، والسلام، النابع من اللون الأخضر، وتعرّفها علاقة الصداقة والوئام ما بين كائنات الطبيعية، تلك العلاقة السلميّة “إجمالًا”، علاقة الطيور بالأشجار، وعناصر الأشجار فيما بينها؛ علاقة التربة السلميّة بالجذور والنسغ والنمو، في تضامن وتآزرٍ وإيثار. وهناك دراسة تقول بما معناه: نحن كبشر، نتاج ما كان يأكله أجدادنا وأسلافنا، أي نتاج الطعام كمادّة، ونتاج: البيولوجيا، المعدة – الهضم.
- هذه المواد، تعابيرها وايحاءاتها تنفردُ السلطة بها حصريًا، مِنها، السجون، المخبرون، مِنع التجوال، حالات الطوارئ والنفير، ما مكوّنات هذه التعابير؟ هي، من مواد بيولوجية إنسانية، كأذنيّ المُخبر وأيادي الجلادين، وأخرى، من مواد وظيفيّة عضويّة، كمكبرّات الصوت التي تعلن النفير، بل وحتّى الإذاعة والتلفزيون في حال إذاعة البلاغات والأوامر. الطابوق المتين السميك المُشيد منه السجون، والمعمول أصلًا لها، يختلفُ عن الطابوق في البيوت طرًّا. مواد المال: ورق النقود، مُحصّنٌ ضدّ التزوير، يختلف عن ورق الصحف، رجالُ ونساء الأعمال، في اختلاف عن رجال ونساء الشعر والفن؛ هناك، أجساد ماليّة ذات تقنيّة حدسيّة للتقلّبات الاقتصادية واستقرار النقد وإنشاء المشاريع، وهنا، أجساد ذات تقنية شعريّة، تقنيات الوردة والريّ، والأرض، والحبّ، والمروءة.
- وفي النهاية: ألا تتشابه تلك المواد الإنسانية (الأُذن) مع الأخرى العضوية (ورق النقود، مكبّرات الصوت) من حيث الأدوار والمادّة الداخلة في كلّ منها؟ (وإن اختلفت مادّة الأُذن عن مادّة الميكروفون، لكنّها، تتشابه وظيفيًا، من حيث السمع والتنصّت!). كان النهر لا يُشبه سوى الجريان والضفاف والحقول (تشابه حسّي) أي، يُشبه ما يتّصل به ويتواصل معه (وذاك، ما يريده الأدب سابقًا، عندما كان حسيًّا فحسب، ولكن بعد أزمة كورونا والدخول إلى الوجود الرقمي، واللجوء إلى الحروب، والتهديد بالنووي كحلّ، كما يحصل في الحرب الروسيّة – الأوكرانية، أصبحت مواد الأدب ليست بريئة، بل هي في علاقة بما يجري ومشاركة بما يحدث). وعليه، أصبحت المواد حسّاسة جدًا للوظائف، بل تُميّز هي من طريق الوظائف. هل يعني ذلك، نحن أمام المواد – الحسّية – الوظيفية؟
- غاستون باشلار، “الأرض وأحلام يقظة الإرادة”، ترجمة قيصر الجليدي، مراجعة كاظم جهاد منشورات “كلمة”.. ويعلّق المترجمُ بقوله: “مثلما تُعلِّمنا الموادّ الصّلبة من الصّخور والرّخام والحديد كيف تُصبِح يدنا عُدوانيّة شاجّة محطّمة مفتّتة ناحتة صاقلة، تعلِّمنا الموادّ الرّخوة من العجائن كيف تُصبح اليد مصافحةً وكريمةً ودودًا. فالعملُ عند باشلار أنموذجٌ للقيم الأخلاقيّة والِاستطيقيّة ونبعها الذي لا ينضب، قبل أن يكونَ نجاعةً ومردوديّة”.