انقرضت كثير من المهن، وقسم في طريقه للانقراض بسبب المكننة المؤتمتة، إذ أصبحت أغلب الأعمال المكتبية والإدارية بالإمكان اختزالها ببرامج أو روبوتات. ولكن اللافت في الأمر هو أن الذكاء الصناعي أصبح ينافس المهن الإبداعية كالتصميم والرسم، فأصبحت بعض المواقع تزودنا بتصاميم إبداعية بمجرد تلقينها بعض الكلمات المفتاحية. واليوم، هل بات الذكاء الصناعي يشكّل تهديداً مستقبلياً على بعض أشكال الكتابة؟
الذكاء الصناعي أداة أم تهديد للإبداع البشري؟
بينما يعتبره البعض تهديداً للبشرية، هناك من يعتقد أن الذكاء الصناعي هو مجرد أداة ولا يشكل تهديداً، ولكن دراسة معدة من قبل عدة باحثين في جامعتي أوكسفورد و ييل تتنبأ أن الذكاء الصناعي سيتفوق على البشر في الترجمة عام 2024، وينافس في كتابة الكتب الأكثر مبيعاً عام 2049، ويتقن كتابة مقالات مشاريع التخرج عام 2026.
ويبدو أن التنبؤ بنجاح كتابة المقالات بالذكاء الصناعي قد تحقق قبل الوقت الذي تنبأت به الدراسة، فقد نشرت صحيفة ” ذي غارديان” مقالاً بعنوان “روبوت كتب هذا المقال بالكامل.. هل بدأتم تخافون أيها البشر؟” والمقال مكتوب بالذكاء الصناعي في محاولة لطمأنة البشر وتبديد مخاوفهم من الذكاء الصناعي؛ إلا أن سلامة اللغة والتسلسل المنطقي للأفكار بمقال الذكاء الصناعي المشار إليه يثير مخاوف الناس أكثر مما يطمئنهم، خصوصا أنه لا يشير إلى أسباب مقنعة لاستمرار تفوق الذكاء البشري.
حالياً، أصبحت خدمة كتابة المقالات بالذكاء الصناعي من الخدمات التي تقدمها العديد من المواقع، منها على سبيل المثال أداة smodin، والمميز بهذه الأداة أنها تدعم اللغة العربية، وتقدم ثلاث خدمات رئيسة هي:
“مؤلف”: وتقدم من خلالها مقالات بعد تزويدها بكلمات مفتاحية خاصة بالموضوع المراد الكتابة عنه.
“التحقق من النص بحثاً عن الانتحال”: وهي خدمة تحاول الكشف عن السرقة الحرفية من خلال الكشف عن وجود النص كفقرات أو كنص كامل في مواقع أخرى.
“إعادة صياغة”: وهذه الخدمة مهمة لبعض صناع المحتوى الذين يرغبون بإعادة تدوير مقالات متوفرة على شبكة الويب بصيغ أخرى، ونشرها في موقعهم بحيث لا تتعرف عليها خوارزميات محركات البحث، إنها خدمة ذكاء صناعي لخداع الذكاء الصناعي نفسه، ولعل الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت لتطور خوارزميات البحث لكشف المحتوى المعاد صياغته من المحتوى الأصيل.
العلم والإبداع ولغز الوعي البشري
لا تزال هناك اعتقادات بأن الإبداع البشري هو وحي من عالم ميتافيزيقي؛ فأحالت الشعر مثلاً إلى شياطين وعرائس. هذه المعتقدات لا تزال راسخة بأذهان العديد من عمالقة الأدب إلى الآن، فمنذ فترة قصيرة وأثناء خطابه في حفل اقرأ الختامي الذي نظمه مركز (إثراء)، قال الروائي التركي أورهان باموك: “إذا استذكرت الكتب التي أمضيت عمري في كتابتها، تفاجئني هذه اللحظات المليئة بالجمل والأحلام والصفحات التي جعلتني سعيداً، ولكنها لم تأت من مخيلتي بل وهبتني إياها طاقة غامضة بكل كرم”.
أي أنه يؤمن أن الكتابة الإبداعية؛ تأتي من عالم آخر، ولعل هذا الإبهام والتخبط الطويل في فهم مصادر الإبداع يعود لعدم فهم كيفية نشوء الوعي، حتى العلم الحديث بصيغته التجريبية لم يستطع أن يعرّف الوعي بشكل موضوعي، فأحياناً يعرفه على أنه “الإحساس بالوجود الداخلي والخارجي” وأحيانا بأنه “الوظائف العقلية المعرفية العليا”، وهناك من يعتبره “المشكلة الصعبة الناتجة عن عدم معرفة كيف تنشأ التجاربُ الذاتية من دماغ مادي موضوعي”.
فالعلم كما نعرفه لا يستطيع تفسير الوعي؛ لذلك نجد أن التطور الكبير في علم البيولوجيا التطورية “علم الأعصاب” لا يترافق بإيجاد تفسيرات يقينية للمشاعر والوعي، ولا نزال نجهل كيفية تحويل التبدلات الكيميائية والكهربائية للسيالة العصبية إلى مشاعر وأحاسيس وذاكرة وإدراك وأحلام؛ أي أننا لا نزال نجهل آلية لتفسير الوعي بأدوات العلم الحديث.
نهاية “الكتابة التقنية”
في كتاب “اعترافات روائي ناشئ” وتحت عنوان “ما الكتابة الإبداعية؟” يقول أمبرتوا إيكو: “إن اللغة الفرنسية تتيح لنا التمييز بين الكاتب Ecrivain، الذي ينتج نصوصاً إبداعية لا يمكن أن تُترجم معانيها بشكل تام كما لا يمكن إعادة صياغتها في كلمات أخرى، والكاتب Ecrivant، الذي يدون الوقائع، بهدف نقل معلومات حقيقية”.
عند البحث عن هذين المصطلحين في معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة لسعید علوش، نجد أنه ترجم Ecrivain إلى الكاتب، بينما ترجم Ecrivant بـ “المكتتب”، الذي يشمل كل أنواع الكتابة التقنية (غير الإبداعية) مثل الكتابة الصحفية والعلمية والتجارية وحتى التقارير المهنية وكتابة المحتوى.
وهنا يتم طرح السؤال: “هل يمكن أن يكتب الكاتب التقني كتابة إبداعية وفق تفسير أمبرتوا إيكو؟ والجواب نعم بكل تأكيد، فالكاتب التقني يمكن أن يكون كاتباً إبداعياً، ويمكن أن لا يكون، وهذا الأمر ينطبق على جميع فروع الكتابة التقنية، فهناك من يتقن التحرير الصحفي ولا يستطيع كتابة المحتوى، وكذلك الأمر بالنسبة للكتابة الإبداعية، هناك من يبدع في كتابة الشعر ولا يستطيع كتابة الرواية أو القصة، وهناك من يكتب الشعر والقصة والرواية لكن النقاد يصنفونه شاعراً فقط؛ لأنه يشكل قيمة مضافة في الشعر بينما كتاباته الأخرى عادية، فالمسألة تختلف من كتابة تقنية إلى أخرى ومن موهبة أدبية إلى أخرى.
ثمة محاولات لتحويل الكتابة الإبداعية إلى كتابة تقنية من خلال دراسة وتعليم قواعد وأركان الأصناف الأدبية بدورات الكتابة الإبداعية، وبالطبع يمكن لهذه المساقات أن تبرز بعض المواهب ويمكن أن تصنع أدباء على غرار شعراء الصنعة، ولكن لا يمكنها أن تصنع شعراء الطبع، أي أنها لا تخلق موهبة إنما قد تنجح بصقلها (إن وجدت)، ويمكن أن تصنع أدباء متكلّفين قد تصنف كتاباتهم على أنها إبداعية ولكنها لا تشكل إضافة للأدب.
فالكتابة التقنية لها قواعد وأسس وأعراف، بينما الكتابة الإبداعية كما أسلفنا مرتبطة بالوعي واللاوعي، وبالوجود، وبزيارات من عالم آخر كما يقول أورهان باموك. وهنا نجد أن الكاتب المهدد بالذكاء الصناعي هو الذي يكتفي بالجانب التقني من الكتابة، بينما الكاتب الإبداعي فلا يمكن للذكاء الصناعي أن يشكل تهديداً عليه طالما أن لغز الوجود والوعي البشري لا يزال غير مفسر بشكل يقيني. حتى إن استطاع الإنسان تفسير الوعي؛ فهل يمكن للذكاء الصناعي أن يصل للمرحلة التي يخلق فيها وعيه الخاص؟
هذه كلها تنبؤات لما بعد تفسير الوعي، ولكن عندما يستطيع الذكاء الصناعي خلق وعي خاص به سيصبح وجود الإنسان مهدداً بالتأكيد، ولن يقتصر التهديد على مهنة دون أخرى أيضاً. ولعل بعض مسلسلات الخيال العلمي تتنبأ بذلك، كمسلسل “Lost in Space” على سبيل المثال.
وبما أن العلم لا يزال عاجزا على فهم الوعي فإن الكتابة بشقها الإبداعي تبقى عصية على الاستيعاب من قبل الذكاء الصناعي.
ختاماً، صحيح أن الذكاء الصناعي لا يستطيع مرحلياً، وحتى بالأفق المنظور منافسة الإبداع البشري إلا أن الإبداع البشري الذي خلق هذا الذكاء وفقاً لمحاكاته قادر على الاستفادة منه لتطوير العملية الإبداعية، أي أن المزج بين الإبداع البشري والذكاء الصناعي أصبح من ضروريات الكتابة بشكل عام، والكتابة الإبداعية بشكل خاص. لذلك فالمستقبل سيكون لدمج الكتابة الإبداعية مع الذكاء الصناعي.
*تلفزيون سوريا