في صالة انتظار غرفة العمليات، أقف متأهبا لإعلان وفاة المريض. عيوني متسمرة على الباب المغلق كأنه غطاء تابوت يحبس أنفاسي، فيجف حلقي، ويتخشب لساني فلا أستطيع له حراكاً.
أتمتم بحنق:
- تباً لغبائي، هرب الجميع عند سماع الطلقة الأولى. لماذا لم أهرب معهم؟ لماذا أتورط بإسعافه؟
عند البوابة الرئيسية للمشفى جمهرة من العساكر، رأيتهم عندما تجاوزتها إلى مدخل الإسعاف، لا بد أنهم أبصروني، وسيلحقون بي.. متأكد من ذلك.
بعد دقائق معدودة، وأنا أجلس على الكرسي الحديدي في غرفة الانتظار يتقدم باتجاهي بعض العساكر، أدير وجهي عنهم:
- هل أنت من أحضر المصاب بطلق ناري؟
- لا.. نعم؛ أقصد أنه مصاب نتيجة حادث سير وليس طلقاً نارياً.
استدرت إليهم وقلت: أنا المقدم سليمان من أمن الدولة.
- آسف سيدي.
أدى التحية، وأدار وجهه هارباً بدون أن يتحقق من هويتي.
- أوووه.. كدت أن أضع نفسي بمأزق كبير. عليّ الاتصال بعمي قبل أن يفتضح أمري.
صوت في رأسي يصرخ:
- ويحك ماذا ستقول له؟ أنك كنت في مظاهرة وأسعفت أحد المتظاهرين! كم أنت أَبْلَه!
الفتاة التي ساعدتني بإسعاف الشاب تقف على مقربة مني، تتحرك بسلاسة وأريحية وكأن شيئا لم يكن، اقتربت منها، وانهلت عليها بالأسئلة. هل أنت خطيبته.. زوجته.. أخته؟
ابتسامتها الصفراء، ونظراتها المبعثرة، تشعرك أنها مشمئزة منك. أكرر أسئلتي، فتتجمع نظراتها التائهة صوب غرفة العمليات. أسئلتي تبقى بلا أجوبة، وعيناها تتمسمر على باب الغرفة.
يعود الصوت الصائح في رأسي:
- غريبو أطوار.. يحاولون تغيير العالم بشعارات السلمية الجوفاء.
ضغطت رأسي بيديَّ محاولاً إسكاته، لكن الصوت تابع صراخه:
- أنت منافق، قذر.
همست للصوت الصارخ:
- أنا منهم، لست منافقاً. منهم؛ لكن بدوام جزئي.
فأنا أعمل نهاراً كمهندس مدني بأضخم شركة إنشاءات في البلد، ومساءً أتسكع معهم في الحارات والأزقة التي نسيها الزمن، أشاركهم أوجاعهم وأحزانهم.
- هم، أحرار أكثر منّا، كريهة حياة المكاتب.. يا للقرف.
يصرخ بي صوت رأسي الصاخب:
- منذ قليل قلت أنك منهم. الآن تقول إنهم أحرار أكثر منّا!.. من أنتم؟
وضعت يديّ على رأسي، ضغطت بلطف ثم بقوة محاولاً إسكات الصخب. صمَّتَ الصوت قليلاً؛ لكن سيل من الذكريات داهمني. تذكرت كيف كنت أقضي يومي بين مكتب الإنشاءات وبيتي مع تلك الزوجة اللعوب مدمنة البروزة والمظاهر الفارغة، وكيف كانت تتصرف مثل حديثي النعمة أيام خطوبتنا.
عاد الصوت الصاخب برأسي:
- مجنون، خائن..
- هل تريد أن أخبرك ماذا يسمونك؟
طأطأتَ رأسِي، وأطبقت أسناني بشدة؛ لأسمع صريرهم الذي يتداخل مع صوت الصراخ المستمر:
- طَرطور، ابن أمه، خَوَّاف، عريس الغفلة…
أتمتم:
- وما شأنك أنت؟ كل ما يقولونه صحيح، أنا غريب الأطوار، ولي حياتين، حياة أقضيها مع زوجتي الحقيرة وأبيها ضابط المخابرات المتقاعد، وحياة تتحقق بها ذاتي من خلال المشاركة في المظاهرات الشعبية.
تداهمني عشرات الأفكار والتساؤلات:
- كيف يكون متقاعدا، وقد استصدر لي هوية أمنية تخولني أن أقود على الخط العسكري؟
تتداخل أفكاري المبعثرة، يرددها الصوت الغاضب، يتصدع رأسي. أمسكه بين يديَّ كحارس مرمى يمسك بكرة القدم قبل أن يركلها بقدمه.
- اخرسوا جميعا.
صوت ثالث برأسي يزجرني ويؤنب الصوت الغاضب.
يسود الصمت، صداع رأسي يتضاءل، ضجيج المكان يتلاشى، أرى وجوه الناس الغاضبة، أرى أفواههم المفتوحة، أرى تساقط الدموع من أعينهم المحمرة، أرى كل هذا بغباش يتزايد.. لكن لا أسمع أصواتهم!
- استيقظ أيها الخائن، تقود سيارتك على الخط العسكري، والآن تعرف نفسك بالمقدم سليمان من أمن الدولة.
أيقظتني الفتاة ذات الرداء الأحمر بعد فترة لا أستطيع تحديدها من غياب وعيي، كانت شفتاها توشوش بأذني، وكأنني في جلسة تنويم مغناطيسي. سمعتها وتجاهلت نداءاتها المتكررة.
- حقير ورب الكعبة، حذرتهم منك، لكنهم لم يستمعوا إليَّ.
كنت ممدداً على الكرسي الحديدي، حركت يديَّ وفركت عينيّ المُصْمغَة، فركتهما. رأيتها تنهض فجأة مع استدارة سريعة. تحركتْ بخطى متثاقلة، عند الباب الخشبي التفتتْ نحوي لتتلاقى عينانا. كانت نظرتها حادة كصقر ينظر لفريسته من علِ.
أحدث نفسي:
- لن تستطيع الاستمرار هكذا، عليك أن تختار إما حياتك النهارية، كعبد لزوجتك المُومِس وأبيها المتحرش، أو حياتك الليلية مع المتظاهرين حيث تحققون ذواتكم المُغيبة عبر شتم الطغاة والمجرمين.
يصرخ الصوت الغبي برأسي المثقل بالوجع:
- مجانين.. خونة.. إرهابيون.
أرد هامساَ:
- أحرار.. صادقون.
فيخرج همسي صراخا أشبه بالعويل. ينظر الناس لي. ياللفضيحة! بدأت أهلوس.
- أتعلم ماذا سيفعل “ختيار الجن” لو عَلَّمَ ماذا تفعل هنا؟
رفعت حاجبي بحركة سريعة للأعلى نافيا. تابع الصوت فحيحه كأفعى متأهبة للانقضاض:
- خَوَّاف.. ذَلِيل؛ لا تجرأ على زيارة الجهات الأمنية لتكذيب التقارير المرفوعة بك.
تتحرك أسناني يمنة ويسره:
- سأقتلها.. أقسم بالله سأقتلها، إنها زوجتي الملعونة، تلك الـ..، هي من رفعت بي تلك التقارير الخبيثة.
- من يكون غيرها؟ ابنة صاحب الشركة التي أعمل بها. “الشايب العايب” الذي لم يترك موظفة من شروره ورغباته الدنيئة.
رددت على الصوت الغاضب:
- غبي! ستسجن!
غيرت من جلستي وتنحنحت:
- هل أنا مجنون حتى أنتقل من سجني الفسيح إلى سجن ضيق؟!
صراخ ذات الرداء الأحمر يقطع خيالاتي:
- خرج عمر من غرفة العمليات!
- عمر خرج!
تمعنت بوجهها الملائكي، وردائها الأبيض، نعم.. إنه أبيض تكسوه بقع حمراء فاتحة، إنها دماء عمر، كما تَتَرَاءى لي بقع حمراء قاتمة، إنها دماء قديمة لآخرين لا أعرفهم، دماء عمر تجاوزت كنزتها البيضاء إلى خصلات شعرها الأشقر، المبعثرة على منكبيها النحيلين.
- لا تقلقي، أنا هنا.. عمر سيكون بخير.
تمتمت لها هذه الكلمات، لا أعرف إن سمعتني أم لا؟
- كاذب، كيف سيكون بخير، وقد توقفت دقات قلبه قبل وصولنا للمشفى؟!
كانت هذه الكلمات تخرج من فمي همساً، وأنا أهبط جالساً على الكرسي الحديدي أمام غرفة العمليات ذات الباب الخشبي، المُثَقَّب بالرصاص، بينما كانت الفتاة تتحرك بنزق وارتباك.
ثم تابعت بصوت مرتعش:
- سيتعافى.. لا تقلقي.
ردت الفتاة:
- سيتعافى! من؟
فركت عيوني، وأنا أدير رأسي باتجاه الفتاة:
- ألا تعرفين من؟!
لم أجد الفتاة، وكأنها “فص ملح وذاب”. الثوب الملطخ بدماء المتظاهرين تبخر، وتبخرت معه خصلات الشعر الأشقر.
زجرني الصوت الغبي برأسي:
- تقول إن زوجتك اللعينة كرّهتك بالنساء، ورغم ذلك تصاحب فتيات المظاهرات المسترجلات.
أرد بهدوء:
- أي صحبة؟ إنها قريبة عمر الذي سقط برصاص الشبيحة في مظاهرة الأمس، أسعفته معي وهربت.. ورطتني اللعينة.
قلت لزوجتي:
- أريد أن أسافر، لم أجرؤ أن أقول لها أريد الانفصال.
تعود الأفكار المبعثرة بالظهور، أتمتم لنفسي:
- لعنة الله على أبي، ورطني معها، ومع أبيها.
ليتني سجنت مع رفاقي في كلية الهندسة العسكرية، عندما تمردنا على رموزهم المقدسة. اعتقلونا؛ لكن أبي أخرجني كالشعرة من العجين، وأظهرني كشاهد ملك، فسرحوني بدلا من سجني، ثم زوجني لابنة رفيق عمره الضابط “المتقاعد”.
لا أعرف أين هم الآن، هل قتلوا تحت التعذيب؟ أم خرجوا ويشاركون معنا في المظاهرات؟ هل أنا خائن بالنسبة لهم؟
يعود الصوت الصارخ ليردد أفكاري المبعثرة:
- أنت خذلتهم.. واليوم تريد أن تخذل جثة عمر المكومة في غرفة العمليات.
- تخلص من عقلية الضحية، أبوك لا علاقة له بسلبيتك.
- البناء الذي وقع كان تحت إشرافك.
تمتمت للصوت الصارخ:
- شركتهم تحتكر مناقصات القطاع العام، وتستمر في سياسة تقتير مواد البناء، وإذا تجرأ أحد المتضررين على رفع دعوة، فمصيره محكمة الإرهاب.. فماذا تريدني أن أفعل؟
لا أستطيع نسيان نظراتها المتعجرفة، وابتسامتها المُتشفية، وهي تقذف على وجهي قرار إحالتي للتحقيق، وتخبرني بسؤال الجهات الأمنية عني. كان ذلك بعد أن أخبرتها عن رغبتي بالسفر.
صوت أذان صلاة الصبح يطرق مسامعي، وفي الساعة الواحدة بعد الظهر موعد استجوابي من قبل لجنة الرقابة بالشركة تمهيدا لابتزازي بالسجن، أو الرضوخ، وبذات التوقيت حجزت تذكرة طيران إلى المجهول.. وأنا متورط مع جثة عليّ دفنها.
أتمتم لنفسي:
- الدفن هو حلمه الوحيد، كل المتظاهرين يخشون أمرا واحدا.. أَلَّا يدفنوا وتمثل الشبيحة بأجسادهم.
يفتح الباب المخرم بالرصاص، تخرج الممرضة بوجهها المتجهم صائحةً:
- هربت.. هربت الجثة!
اختفت جثة عمر، واختفت معها الفتاة ذات الثوب المخضب بدماء المتظاهرين، وبدأ صوت رأسي المزعج يتحدث بهدوء:
- غبي! ألا تعلم أن الثوار لا يثقون بك أيها الرمادي، ولا بإدارة المشافي؟
- متى تتعلم أن تكون ثائراً حقيقياً؟ *تلفزيون سوريا