تعتبر القراءة زاد الأديب والمفكر للإبحار بعوالم الأدب والفكر، وهي –القراءة- من أكثر النصائح التي يتلقاها الكتّاب الجدد من الذين سبقوهم في تجارب الكتابة والنشر. تركز هذه النصائح على القراءة بينما تتجاهل أهمية التجربة الحياتية للأديب؛ فالكتابة القصصية عموما لا تحتاج إلى الاطلاع على تجارب الآخرين فحسب، وإنما تحتاج أيضا إلى احتكاك الأديب بالناس ومخالطتهم، وألا يبقى أسير الفكرة النمطية للكاتب (طقوس القراءة والكتابة) التي يستفيض بالحديث عنها في لقاءاته الصحفية.
غياب التجربة الحياتية للروائي في أسئلة الصحافة
إذا تصفحنا السير الذاتية للروائيين السوريين على ويكيبيديا مثلا، سنجد أن معظمها تحتوي على تبويبات مثل نسبه وعائلته، إلى غير ذلك. لكنها لا تلتفت إلى تجربته الحياتية خارج موضوع الأدب، وكأن كتّاب السير الذاتية على ويكيبيديا يحاكون الفكرة النمطية للروائي المشغول بندواته وتوقيع كتبه في معارض الكتب.
لكن بقليل من التمعن وبالعودة إلى مصادر هذه السير “الويكيبيدية” نجد أن غالبيتها مأخوذة من أجوبة الروائيين على الأسئلة النمطية التي تتكرر في المقابلات، هذه الأسئلة التي تركز على طقوس الكتابة الروائية (بما توحيه كلمة طقوس من رهبة وتعظيم) أصبحت أشبه بكليشة جاهزة يكررها الصحفيون في أغلب اللقاءات، كما وأن الأجوبة أصبحت جاهزة أيضا.
الأسئلة الأهم التي تتعلق بتجارب الحياة الحقيقية يتغافلون عنه، ويبدو أن الكتّاب هم أيضا يتواطؤون في ذلك! فالتجارب الحياتية غالبا ما تكون شخصية ويصعب على الصحفي والكاتب الإبحار فيها، خصوصا أن ذلك قد يخدش هالة القداسة التي يحرص بعض الروائيين على إحاطة أنفسهم بها. ولا ننكر بالطبع وجود أدباء متواضعين لا يسعون إلى الظهور بأي مظهر خادع، ولكنهم يفضلون الاحتفاظ بتجاربهم الشخصية بعيدا عن الأضواء.
ثبات الموضوع.. حضور ذات الأديب في أعماله
تكمن أهمية معرفة التجارب الحياتية للروائي في استخلاص هموم الأديب الذاتية، فعندما سئلت الروائية “هيرتا مولر” الحاصلة على نوبل للأدب عن سبب ثبات المكان والموضوع في جميع أعمالها، كونها غالبا ما كانت تتحدث عن الحياة تحت النظام الشمولي الذي ساد سابقاً في رومانيا، أجابت:
“لا أملك مشهداً غير الذي أعرفه، والذي أتيت منه. شخصياتي الأدبية تعكس ما يجري على الإنسان تحت حكم شمولي، أنا مقيدة بكتابة الأشياء التي تهمني والتي لا تدعني في أمان”[1].
أي أنها تستغرب أن يكتب كاتب عن تجارب لم يعايشها، من أفكار مستوردة عن عالم لا ينتمي إليه. وقياسا على ذلك إذا استعرضنا أعمال “أورهان باموق” فإننا نجد أن أغلبها تناقش مسألة الصراع بين الغرب والشرق بحكم انتمائه إلى منطقة جغرافية متأثرة بالشرق الإسلامي والغرب الأوروبي.
لذلك تبرز هذه الثنائية (الغرب والشرق) في رواية “اسمي أحمر” على شكل صراع بين فن “المنمنمات” الإسلامي والفن الأوروبي “البورتريه”، وكذلك في رواية “ثلج” تتجلى بالصراع بين العلمانية والإسلام السياسي، وفي رواية “القلعة البيضاء” بشخصية الإيطالي “القبعة الأوروبية” والأستاذ “الطربوش العثماني”…
في الأدب السوري، إذا استعرضنا أعمال الروائي فواز حداد على سبيل المثال، سنجد أن أغلب رواياته منشغلة بالواقع الاجتماعي في ظل الأنظمة الشمولية، سيما المتعلقة منها بأزمة المثقف العربي؛ هذه الثيمة نجدها في روايته “المترجم الخائن”، وفي “السوريون الأعداء” و”صورة الروائي”، وفي رواية “يوم الحساب” أيضا. وقد تمكّن حدّاد في تلك الروايات من رصد ذلك الواقع بمنتهى الدقة وبأسلوب روائي مميّز.
تلازم الغِنى الروائي مع ثراء التجربة الحياتية
بصرف النظر عن رأينا برواياته ولغته فيها، يعتبر حنا مينا من الأدباء القلة الذين استفاضوا بشرح تفاصيل حياتهم وتجاربهم فيها، فقد عمل “حلاقا وحمالا في ميناء اللاذقية، ثم بحارا على السفن والمراكب، ومصلّح دراجات، ومربّي أطفال، وعاملا في صيدلية، كما عمل صحفيا أحيانا، وكاتب مسلسلات إذاعية، وموظفا حكوميا، واختتم حياته القاسية بأن أصبح روائيا”[2].
وكذلك الأمر بالنسبة للقاص السوري زكريا تامر، الذي أجبرته ظروف الحياة القاسية إلى “ترك الدراسة، والعمل حدادا في أحد المعامل”[3]، إلا أن تامر أبدع في إلباس تجاربه وأفكاره المكتسبة لأناس وأشخاص آخرين، بل ولكائنات حية أخرى، ولم يقع في فخّ جَعْل قصصه انعكاسا ذاتيا لشخصه بهيئة “المذكرات” كما حصل مع عديد من الكتّاب.
كذلك الحال أيضاً مع عبد السلام العجيلي الذي “تطوع في جيش الإنقاذ 1948، وكان نائبا في البرلمان آنذاك، وبعد بدء مسلسل الانقلابات العسكرية خرج من الحلبة السياسية ثم عاد إليها وتولى وزارة الثقافة لستة أشهر عام 1963، ثم جمع إليها وزارتي الإعلام والخارجية بعد الانفصال. يذكر أنه تربّى على يد جدّه الصارم تربية إسبرطية (عسكرية، لا تكترث للتعليم إلا بالقدر الضروري ولا تهتم بالفن والأدب والفلسفة)، وبعد المرحلة الابتدائية أقعده المرض أربع سنوات قضاها في القراءة”[4]، إضافة إلى كثرة أسفاره، واحتكاكه المباشر مع الناس في عيادته التي ظلت مفتوحة إلى أواخر حياته. هذه الحياة الغنية والمتشعبة بين نشاط سياسي ونشاط اجتماعي نجدها بين ثنايا قصصه.
تجارب الحياة شرط لازم لكنه غير كافٍ
على الرغم من أهمية التجربة الحياتية لكنها غير كافية لوحدها كي تصنع أعمالا أدبية ناجحة، ودليل ذلك أن هناك العديد من الكتاب الذين يتمتعون بتجربة حياتية مميزة ومتفردة، لكن أعمالهم الأدبية لم ترتق لمستوى الأدب الذي نتحدث عنه. وهنا يميز أمبرتو إيكو “بين الأديب الذي ينتج نصوصاً إبداعية، وبين الكاتب الرديء الذي يدون الوقائع، تماماً كما يفعل موظف في بنك، أو شرطي وهو يحرر محضراً”[5].
وذات المعنى نجده عند رولان بارت فهو يميز بين الكاتب والمؤلف، فاللغة عند الكاتب “وسيلة لغاية غير لغوية، لذلك ينقل كل ما يكتبه بمعنى واحد فقط، وهو المعنى الذي يريد أن ينقله للقارئ؛ أما المؤلف فيتركز اهتمامه على الوسيلة، التي هي اللغة، بدلا من الغاية، أو المعنى، إنه مشغول بالكلمات لا بالعالم، فالمؤلف لا يبدأ من المعاني كما يفعل الكاتب، بل يسعى نحوها”[6].
ختاماً، إذا تتبعنا نتاج كبار الأدباء والكتّاب، والفنانين أيضا، سنجد أنهم يجمعون بين أمرين اثنين: التجربة الحياتية الثرية، وصدق التناول. فموضوعاتهم نابعة من هواجسهم الذاتية وهموم حياتهم الشخصية، وهذا ما يشترك به كل من ذكرناهم إضافة إلى غيرهم أيضا، كنزار قباني ومحمود درويش وناجي العلي وأحمد مطر ومظفر النواب وعبد الرحمن منيف…
ميزة هؤلاء أنهم تمكنوا من صهر تجاربهم الحياتية وقراءاتهم المتنوعة في ماعون ذواتهم؛ ليخرجوا إلينا بنظرتهم الإبداعية للحياة والإنسان، وبقوالب جمالية مبتكرة.
1][1] موقع. RadioFreeEurope
[2] السيرة الحياتية للروائي حنا مينا على موقع جائزة كتارة للرواية العربية.
[3] زكريا تامر القصة القصيرة، امتنان الصمادي، صفحة23.
[4] تلخيص من السيرة الذاتية لعبد السلام العجيلي الواردة في مقال “عبد السلام العجيلي.. مؤسس الرواية السورية الجسرة الثقافية الالكترونية” ، جهاد فاضل.
[5] اعترافات روائي ناشئ، أمبرتو إيكو، صفحة 17.
[6] تلخيص بتصرف من الصفحات (79-80-81) من كتاب البنيوية “وما بعدها” من ليفي شتراوس إلى دريدا”، تحرير: جـون سـتـروك، ترجمة محمد عصفور.
*تلفزيون سوريا