يتضمن نص الكاتب المسرحي (وائل قدور) بعنوان (توتة توتة، 2015) اثنين من أبرز خصائص إنتاجه المسرحي كدراماتورج وكمؤلف مسرحي. ميزة النص الأولى على مستوى الموضوع وهي المتعلقة بالقضايا الخاصة بحقوق المرأة، ورصد التغير في القيم الاجتماعية، وإيجاد الرابط بين ثورة وامرأة. أما الميزة الثانية فهي على مستوى النص أو التقنية السردية، إذ تميزت نصوص المؤلف بإدماجها دوماً مع نص مستمد من تاريخ المسرح، ففي نصه (الاعتراف، 2016) يستلهم من نص (الموت والعذراء، أرييل دورفمان، 1990)، وفي نصه الحالي (توتة توتة) نتابع حكاية تحقيق لمجموعة من الممثلين والممثلات نص شكسبير الشهير (روميو وجولييت).
أنتج الكاتب هذا النص في إطار برنامج تدريب أقامته مؤسسة اتجاهات ومؤسسة شمس لتدريب شابات وشبان من سوريا وفلسطين على الكتابة المسرحية، وأنتج المشروع عرضاً قُدم في لبنان من إخراج: رأفت الزاقوت.
بناء مسرحي متعدد الطبقات السردية
يتألف الحدث الدرامي في المسرحية من خطين سرديين: الخط الأول يجري في العام (2012) في بيروت، حيث يحاول (هادي) فاقد الذاكرة أن يستعيد ماضيه، ويتعرف إلى الظروف التي أوصلته إلى عيادة الطبيب في بيروت. والطبيب يقرأ مع هادي نصاً مسرحياً كتبه (هادي) في ماضيه، وعثر عليه معه في بيروت، والذي من خلال أوراقه وحدها، يمكن التعرف إلى معلومات من ماضي (هادي)، الذي لا يعلم بدوره ما الذي جرى معه، وكيف أصيب رأسه، وكيف استعاد الوعي ليجد نفسه في لبنان بلا ذاكرة مع أوراق تشكل نصاً مسرحياً يمكن أن يتضمن معلومات تفيد في إعادة بناء حكايته مع الطبيب.
أما الخط السردي الثاني فهو الأحداث المكتوبة في النص المسرحي، وهي تجري في العام 2010، أي قبل سنتين، وتستعرض التحضيرات التي يقوم بها مجموعة من الممثلين والممثلات لتحقيق مسرحية نص شكسبير (روميو وجولييت)، وتتركز فيها الحكاية على العلاقة بين (هادي الماضي) وبين الشابة (نجلا) شابة في بداية العشرينيات. طالبة هندسة معمارية، ولكنها تهوى التمثيل على الرغم من معارضة جميع من حولها. مندفعة وأحياناً انفعالية. تلعب دور جولييت، وترتبط بعلاقة عاطفية مع هادي. يطلق المؤلف المسرحي على هذا الخط السردي “المسرحية الداخلية”، وهي كل ما يتعلق بالبروفات لتحقيق مسرحية (روميو وجولييت) هو نص كتبه هادي من دون أن يذكر نهايته، وهو كالمتلقي، يقرؤه مع الطبيب فصلاً فصلاً ليكتشف سلوكه، وتصرفاته، ومصيره في نصه، الذي يجعل فيه الكاتب هادي من نفسه الشخصية الأساسية أيضاً. ومن خلال الخط الدرامي الذي يربطه بنجلا فإننا نكتشف هادي الماضي المحافظ، التقليدي، يحاول ما أمكنه منع نجلا من النجاح في عالم التمثيل وتحقيق حلمها.
الشخصيات المتصارعة على سلم القيم
في تاريخ المسرح، لا تتميز نصوص الكاتب النرويجي (هنريك إبسن) بالتطرق إلى وضعية وتحرر المرأة في المجتمع وحسب، بل أيضاً بالصراع الذي تعيشه الشخصيات بين قيم المجتمع الأوروبي التقليدي وقيم المجتمع الحديث، وقد سبب نصه بعنوان (الأشباح، 1881) عاصفة من الجدل، وأعاد أصحاب المكتبات نسخ هذه المسرحية ولم يقبل أي مسرح في المنطقة الإسكندنافية بعرضها. لذلك، فقد عرضت هذه المسرحية للمرة الأولى في شيكاغو العام 1882، ومن ثم هليسنكبورغ في السويد العام 1883، وفيها تتعدد الشخصيات التي تتصارع مع القيم الأخلاقية والاجتماعية السائدة أو المتغيرة.
فالشخصية الرئيسية (السيدة ألفنج) تعيش تحولاً فكرياً وأخلاقياً يتشكل عبر أحداث المسرحية، فترصد المسرحية التحول الذي تعيشه السيدة (ألفنج) وذلك بسبب نوعية الكتب التي تقرؤها، وهذا ما يرفضه القس ماندورز الذي يعبّر عن عدم رضاه عن نوعية الكتب الداعية للتفكير، والذي يصرّ أيضاً بحسب الرأي الديني على بقاء السيدة (ألفنج) مع زوجها، رغم أنه زوج فاجر قد أغوى خادمة.. ويرى القس في احتراق الملجأ الذي تعود ملكيته للعائلة بأنه عقوبة إلهية على إثم هذه الأسرة. كذلك في نص (توتة توتة)، يكتشف هادي الحاضر الحقيقة رويداً رويداً عن هادي الماضي، الذي يرفع من شأن العادات والتقاليد، ويتراجع عن أحلامه وطموحاته أمام الواقع المفروض في كل مرة، ومن هنا يأتي الموضوع المسرحي المتعلق بحرية المرأة من وجهة نظر الشخصية الرئيسية في النص.
الشخصية المسرحية بين الذات الراهنة والذات الماضية
يتبع الكاتب المسرحي (قدور) تقنية سردية غنية في التحليل والتفكير في الحدث المسرحي وكذلك في بناء الشخصيات، وتتمثل في أن الطبيب والشخصية (هادي) يقرأان النص كما هو حال المتلقي، ويخمّنان ما فيه من إمكانات في التحليل النفسي، وفي الأخلاق وفي الحقوق الاجتماعية والإنسانية. أي عبر القراءة المتقطعة لنص الماضي تجري المناقشات والبحث في الاحتمالات التي تصب كلها في طريقة تفكير هادي، كشخصية تحاول أن تكتشف نفسها في الماضي، عبر النقاشات الجارية في اللحظة. ومن ثم نكتشف أن هادي بين الماضي والحاضر، ويمكن القول بين تاريخ ما قبل الانتفاضة الاجتماعية السورية وما بعدها، يعيش هادي صراعاً بين القيم الماضية وبين طريقة تفكيره الجديدة.
كذلك يستفيد المؤلف المسرحي (وائل قدور) من المساحات المفتوحة بين المسرح والتحليل النفسي، وبالأخص تمارين إعداد الممثل، فبينما نتابع تمارين التدريب على تجاوز الخوف مثلاً في إطار التحضيرات لمسرحية (روميو وجولييت) نشعر وكأن التمرين يتعلق بالحالة النفسية والداخلية للشخصية الرئيسية المستقبلية هادي:
المدرب: “رح نعمل اليوم تمرين درامي مهم اسمه تمرين الخوف. كل واحد فينا بالحياة عندو رغبة أو هدف بكون عم يسعى إلو، وبنفس الوقت بكون عندو خوف عم يهرب منه.. كيف ممكن تهرب من شي وتلحق شي بنفس الوقت.. هي هيّ الدراما وكمان هي هيّ الحياة”.
نجلا: “أنا أهلي إزا بيعرفوا إني عم إجي لهون ومثّل يمكن روح فيها نظامي!”.
التحولات الفكرية والمصيرية للشخصيات
نلمس في النصوص المسرحية التي تعالج الصراعات الفكرية للشخصيات، سواءً عند إبسن أو عند وائل قدور، وجود لحظات التحول التي تعيشها الشخصيات، فالنماذج الثلاثة التالية المأخوذة من نص (أشباح وتوتة توتة) تعدّ نماذج مثالية في دراسة حالات التحول التي تعيشها الشخصيات في هذه المعالجات المسرحية..
تقول هيلينا – أشباح: “هناك أشباح تكثر التردد إلي، لكنني أميل للاعتقاد بأننا جميعاً أشباح. فليست الأشياء التي نرثها من آبائنا وأمهاتنا هي وحدها التي تبقى حية في دواخلنا، بل جميع أنواع الأفكار والمعتقدات القديمة البالية وأشياء من هذا القبيل، إنها لا تحيا في دواخلنا فحسب، بل هي مغروسة فينا أيضاً، ولا نستطيع تخليص أنفسنا منها، ليس عليّ إلا أن أنتقي صحيفة وأقرأ فيها لأرى أشباحاً تنسلّ بين سطورها، أعتقد بأن هناك أشباحاً في كل مكان، وهي كثيرة بعدد حبات الرمل، وأعتقد بأننا جميعاً نخشى النور لدرجة يرثى لها”
يقول هادي- توتة توتة: “مين اللي بروح عالجنة ومين اللي بروح عالنار؟! اليوم الناس عم تموت وكلها مفكرة إنها طالعة الجنة.. وكل اللي عم يقتلوا مفكرين إنهم عم يقتلوا باسم الله!! صاير عم بتفرج على الأخبار وأقرأ شو عم بصير عالفيس بوك واسأل حالي: وبركي ما طلع بعدين في جنة ونار؟ كل هالناس اللي ماتت شو بتعمل حالها.. بس بعدين برجع بستغفر ربي وبقول إنو أكيد حكمته أكبر من كل شي منعرفو.. (صمت قصير).. في جنة ونار، مو هيك؟
في كل من مسرحية إبسن ومسرحية وائل قدور ترتبط الحرية الاجتماعية بالحرية الشخصية، وخصوصاً المتعلقة بالمرأة. يكتب المترجم (طارق عسكر) عن مسرحية (أشباح): “تتناول المسرحية فكرة كفاح الأفراد لتحقيق ذاتهم ولإخلاص الولاء لرغباتهم وطموحاتهم، وكيف تعترض بيئتهم وما ورثوه عن آبائهم سبيلهم في تحقيق ذلك. وبصورة أخرى يمكن اعتبارها مسرحية تتحدث عن الإرداة الحرة والتصميم، وتطرح سؤالاً إلى أي مدى يمون الفرد حراً في صياغة شكل حياته أو حياتها؟ فالماضي يؤثر في الحاضر. وفي إطار الإرث، نجد أن إبسن يدرس عجز الناس عن الهروب من الأشباح، المتمثلة بالأفكار والإثم الأخلاقي والسمات الموروثة الآتية من الأجيال السابقة. فنرى أن الشخصيات مدركة أمر هذا الإرث تماماً”.
أما في نص (توتة توتة) فنجد العلاقة بين هادي ونجلا ترتبط بالتغييرات السياسية والاجتماعية، فقدرة المجتمع على قول آرائه السياسية والاجتماعية ترتبط بقدرته على معالجة الموضوعات الذاتية والعاطفية، ويختار المؤلف (قدور) الإحالة الواضحة إلى هذه العلاقة بين الذاتي والجمعي في أكثر من نص، كما في (توتة توتة):
هادي: رجعنا التقينا لما بديت الأحداث.. شفنا بعض صدفة بمظاهرة.. قلبي طار من الفرح.. وبدون تفكير مشينا جنب بعض.. الناس كانت عم تهتف ونحن كنا عم نحكي بصوت عالي.. وصرنا نركض مع الناس اللي كانت خايفة ومرعوبة.. نحن كنا عم نضحك.. ما كنا خايفين!
وفي تكوينٍ يلعب على دور الخشبة المسرحية في بناء الزمن المسرحي، والرابط بين الخطوط السردية، ينتقل في المشهد الأخير هادي – الحاضر في عيادة بيروت، إلى بروفات صالة التمثيل في الماضي، ليصحح من مسار الأحداث وفقط رؤيته الجديدة:
(وهي تغادر يندفع هادي من فضاء العيادة إلى فضاء البروفة وسط ذهول الجميع)
هادي: خليكي نجلا لا تروحي!
نجلا: هادي شو بدك؟
هادي: خليكي عم تمثّلي.. لا تزعلي من اللي صار اليوم.. السنة الجاية بترجعي بتقدمي عالمعهد وبتنقبلي.. أنا كتير كنت سيئ معك.. انسي كل شي صار اليوم وكل الكلام السيئ اللي حكيتو معك.. أرجوكي ضلي..
هادي: رح أحبس هاللحظة معي.. رح أحبس حالي جوا هاللحظة وأمنع الزمن يمر
يلتقط الكاتب المسرحي (وائل قدور) الصراعات الفكرية التي يعيشها المجتمع عبر الصراعات الذاتية للشخصيات المسرحية التي يبتكرها، ويمزج في الكتابة بين المسرحية الكلاسيكية التي تدافع عن حقوق الفرد، وبين الكتابة المعاصرة التي تستلهم نصوصاً من تاريخ المسرح، أو تدمج المسرح داخل المسرح. ويتميز النص الذي بين أيدينا، (توتة توتة)، بفكرة حضور الزمن الماضي والحاضر في المشهدية المسرحية البصرية والسردية أمام المتفرج على خشبة المسرح.
فريق العمل في عرض (توتة توتة)
الممثلون في العرض المسرحي:
- أحمد خطاب
- أنس مسوتي
- أيمن السيد
- جمانة كمال
- زياد نصر
- سامر زاهر
- عائشة السلعوس
- محمد نسر
- هنادي الشبطة
موسيقا: يمنى مروة
إخراج: رأفت الزاقوت
نص: وائل قدور
*تلفزيون سوريا