علاء رشيدي: المدن المذهلة في مخيال الحرب.. عن القصيدة في زمن الحرائق

0

التاريخ العابر بين أنفاق المدن:

في لقاء تلفزيوني يروي الشاعر (غياث المدهون)، كيف كتب قصيدته (شيزوفرينيا) التي تشكل الجزء الأكبر من ديوانه الأخير (أدرينالين، 2018). فقد كتب هذه القصيدة بعد زيارة لمدة اسبوعين لمدينة (إيبر، هولندا)، تزامنت مع ذكرى مرور مئة عام على أول هجوم بالسلاح الكيميائي في التاريخ، وقع على هذه المدينة في حقول الفلاندرز بين بلجيكا وهولندا خلال الحرب العالمية الأولى، فتتفح القصيدة: “في مدينة إيبر التي تتوسط حقول الفلاندرز، كما تتوسط أصبع وسطى مرفوعة في وجه العالم كف اليد. في مدينة إيبر التي مُسحت في الحرب العالمية الأولى عن الخارطة، كما مسح الشعب الفلسطيني من كتب المدارس وسجلات التاريخ”.

ويصرح الشاعر في اللقاء التلفزيوني ذاته، بأن الشعب الفلسطيني واحد من ضحايا الحرب العالمية الثانية، وما فعله النازيون باليهود خلال أحداثها. هكذا تتداخل في القصيدة تاريخ مدينة (إيبر) بحاضر الشعب الفلسطيني.

بين إيبر وفلسطين

يفتح الشاعر في القصيدة على العلاقة بين مدينة (إيبر) وماضيها من جهة، وبين واقعة سيره هو الفلسطيني اللاجئ في المدينة. ففي فكر الشاعر وإحساسه تتداخل المدينة بتاريخها، ويتداخل الحدث التاريخي مع هويته هو كفلسطيني. لتصبح اللحظة الشعرية هي هذا التداخل الثلاثي بين المدينة والتاريخ وذات الشاعر: “في مدينة إيبر، حيث تستطيع أن تضع يدك على التاريخ الممدد أمامك كجثة، أن تلمس الجرح، لتكتشف أنه لا يزال ساخناً كحلمة امرأة تذوب بين شفتيك، أتمشى أنا اللاجئ الفلسطيني الذي كان حتى فترة وجيزة محذوفاً من جميع الكتب والأخبار والأكاديميات والتحقيقات. أنا اللاجئ الفلسطيني الذي لم يكن له وجود في هذا العالم المتحضر، أتمشى مثل أركولوجي، جاء برفقة بعثة استكشاف استعمارية من وراء المحيط”.

في ذكرى الحرب يعبر التاريخ من الماضي إلى الحاضر، يتسرب من خلال نظرات عيون ضحايا الحرب الذين تعبُر نظراتهم إلى المستقبل، نظرات الموتى إلى المستقبل تمكنهم حتى من قراءة هذه القصيدة ذاتها التي ستكتب في القادم، والتي نقرؤها في اللحظة: “في مدينة إيبر حيث يستطيع التاريخ أن ينظر إليك بعينين حديديتين، 600 ألف رجل تناثروا في الحقول، قرؤوا قصيدتي قبل أن أكتبها، مر قرن، ولا يزالون هناك، أمهاتهم شبعن موتاً وهم لا يزالون هناك، حبيباتهم هرمن وحيدات مع رجال آخرين، ولا يزالون هناك، عالقين في الزمكان”.

هذه التجربة التاريخية مع مدينة (إيبر) تفتح على تاريخ فلسطين، فيروي الشاعر بخلاصة مكثفة تاريخ فلسطين: “أفكر في فلسطين البلاد التي اخترعت الله، فتسببت بسفك ملايين الأرواح باسم الله، بلاد الحليب والعسل، التي لا يوجد فيها حليب ولا عسل، البلاد المقدسة، التي خضنا من أجلها حروباً مقدسة، وهزمنا فيها هزائم مقدسة، وهجرنا منها تهجيراً مقدساً، وسكنا من أجلها في مخيمات لجوء مقدسة، ومتنا من أجلها موتاً مقدساً”.

الحرب كذكرى، الحرب الآن وهنا:

عامل آخر يربط مدينة (إيبر) بفلسطين، فبالإضافة إلى ذات الشاعر المتجولة بينهما، تربط بينهما الحرب. الحرب في حاضر (إيبر) تحولت إلى ذاكرة متوسعة تلتهم ذاكرة الأجيال، التي من كثرت ما سمعت عنها، تمنت لو أنها تعيشها تواً، الحرب رابط بين ذاكرة الحدث التاريخي في الماضي ومستقبل الذاكرة المستمر: “كل شيء يسقط بالتقادم، إلا في إيبر، هنا ذاكرة الحرب تنمو مع مرور الوقت، حيث ذكرى الحرب تأكل السياح وتكبر، تأكل المحاربين القدماء وتكبر، تأكل الحكائين وأحفاد الرجال الذي قتلوا هنا وتكبر، تأكل ذاكرة الذين لم يولودوا بعد وتنمو مثل عريشة عنب”.

دمشق

ومن محور الحرب تفتح القصيدة على مدينة جديدة،إنها مدينة (دمشق). فبينما الحرب في (إيبر) ذكرى من الماضي مازالت تمتلك اللحظة، فإن الحرب في مدينة (دمشق) تحتل مساحة الآن وهنا بالكامل، فتفتح لنا القصيدة نفقاً إلى زمن الحرب في أحداثها العنفية، كأننا نتقل من ذاكرة الحرب إلى لحظة الحرب: “في الثالثة فجراً، تسقط صواريخ محملة بغاز السارين في عدة أماكن في ضواحي دمشق المكتظة بالسكان، تضيق حدقات العيون، تتسع الرؤية، تهتز أجساد الأطفال بطريقة منظمة، تهتز بشدة، إنها هزة أرضية من نوع مختلف، حيث البيوت ثابتة، والأجساد هي التي ترتجف، إنها هزة أخلاقية، تصيب هذا العالم”. هل ها وصف الحدث الذي عاشته (إيبر) منذ مائة عام ؟ أم أنه الحدث الجاري في دمشق في الراهن؟

حلب

في قصيدة (حدث ذات مرة في حلب، 2011-2015) للشاعر (فؤاد م. فؤاد)، سعي إلى تجسيد راهن للحرب الآن وهنا في مدينة أخرى هي (حلب)، لكن الأسلوبية الشعرية التي يختارها الشاعر مغايرة، ففي المقطع الإفتتاحي للقصيدة يركز على تجسيد لحظة الحرب عبر وصف للعالم الصوتي المحيط التي تشيعه: “على شرفة البيت أجلس، حلب أمامي سوداء وموحشة. قرقعة صحون في العتمة تعني أن ثمة حياة تحدث على طاولة قريبة. لا نأمة سوى رشقات رصاص متقطعة من مكان ما، وقذيفة واحدة يسبقها صفير غريب. ثمة من يترك الآن هذا الكوكب بحلق جاف”. وهكذا توصف الحياة بقرقعة صحون في العتمة، ويحدث أثر الرصاص عبر الصوت، ويحضر الموت عبر الصوت أيضاً.

المدن الحكيمة في كتاب الحرب:

حين يحاول الشاعر (فؤاد فؤاد) وصف تجربة الحرب في مدينة (حلب)، ينقلنا بكاميرا شعرية دقيقة كمجهر إلى لحظة وقوفه أمام المكتبة، تغير الحرب من فهم عناوين كتب التاريخ، فتتحول كلها عناوين للألم والمأساة، وتصبح الحياة مسودة كتاب بحاجة إلى تصحيح:

“رفاق القراءة نائمون،

تتجول وحيداً بين رفوف المكتبة

دون إشارات تدل على المَخرج.

الأنين على اليمين من الرف الثالث

فصلٌ كاملٌ مطرود من الرواية،

والضحك عنوان مأساوي

 لكتاب في الفلسفة.

نحن أشبه ما نكون من مسودات الكتب

مليئين بالمقاطع التي تحتاج إلى تنقيح”.

في الأدب، الحرب ليست مأساةً فقط، بل أيضاً تجربة من الحكمة، فتبين القصائد أن العيش في مدن الحرب أو المرور في ذاكرتها يعلم الدروس، لذلك فإن مدن الحرب لا تحضر فقط بالكارثة العنفية، لكنها تحضر أيضاً كمعرفة، كإكتشاف ماهية الحرب بعد مرور الزمن كما هو الحال في قصيدة (شيزوفرينيا)، حيث يقف الشاعر أمام آثار المجزرة ليعيّها وصاياها: “أنا الناجي الوحيد من هذه المجزرة الرائعة، أنا الشاهد الذي وصل متأخراً، أراقب شواهد القبور بهدوء، صدمتي أمام عاديتها تشبه صدمتها أمام زائر غير متوقع، شاهد من بلاد غير مسموح لأبنائها بالإدلاء بشهادتهم، ضحية تزور قبور ضحايا”. أمام آثار المجزرة تفاجأ الشاعر رتابة الموت، ودروس الحرب التي لا يتعلمها إلا الذين ماتوا كضحاياها: “ستفاجئك رتابة الموت، التكرار الممل الممل رجال يسقطون خلال الركض متعثرين برصاصة، ستفاجئك رتابة الدروس التي لم يتعلمها أحد سوى الذين ماتوا”.

كذلك من تجربة مدينة (دمشق) هناك دروساً مستخصلة من الحرب، فأكثر ما تمثله (دمشق) في القصيدة هو تلك الحكمة التي خبرت الحرب وأدركت مأساة دقة وصفها، ففيها يخبر الشاعر الحكمة المستخلصة من الحرب: “لقد تعلمت من الحرب أكثر مما تعلمت من السلم، وأستطيع أن أؤكد لكم، أن كثيراً من الجنود يتحولون إلى مجرمي حرب، وأن الأخبار الجيدة في الحرب هي أن لا يكون هناك أخبار سيئة، وأن الذين خسروا الحرب هم الذين ماتوا، من الطرفين، وأن الحرب في طفولتها ترضع دم الجنود، وأنها تموت حين يعيشون“.

المدن القابعة في الموت:

في كتابه (المدن اللامرئية) يتخيل الأديب الإيطالي (إيتالو كالفينو) مدينة (أديلما)، وهي مدينة تمثل الموت، وأن يكون المرء فيها يعني أن يكون في عمق الموت، حتى أن الكاتب بمجرد أن يكتب عنها فهذا يعني أنه ميت: “في أديلما لا يلتقي المرء سوى الأموات، إنها حلم مفزع، وإذا كانت أديلما مدينة حقيقية، يسكنها أحياء، فإنه يكفي متابعة التفرس في الوجوه حتى تزول التشابهات، لأنه في أديلما يكون الأموات بين هؤلاء الذين عرفناهم أكثر عدداً من الأحياء. ويرفض الفكر فيها قبول هيئات أخرى، وتعابير أخرى، فهو يطبع، على كل الوجوه الجديدة التي يلتقيها، الرسوم العتيقة، ويجد لكل منها القناع الذي يليق به أكثر. أديلما المدينة التي نصل إليها، عندما نموت، وحيث يجد كل امرئ هؤلاء الذين عرفهم. وهذا يعني أنني أنا نفسي أيضاً قد مت”.

وفي قصيدة (شيزوفرينيا، غياث المدهون) حتى مدينة (إيبر) التي ابتعدت 100 عامٍ عن حربها، فإنها مازالت قابعة في الموت: “في مدينة إيبر، القول بعد مئة عام على دمارها، أم بعد مئة عام على إعادة إعمارها. كل شيء في المدينة متصل بالموت، قبر الجندي المجهول يشبه جرحاً مفتوحاً، الموسيقى التي تعزف كل مساء منذ أكثر من ثمانين عاماً، تشبه نزفاً لا ينقطع، الحقول التي تحوي ذكريات رجال، قتلوا هنا لأسباب لا يعرفونها”. أما في مدينة (دمشق) فيحضر الموت حداً أن يصبح القلب بين أحشاء الإنسان من الغرائبيات: “كنت ذاهباً إلى الموت حين أوقفني المقاتلون، فتشوني، فوجدوا قلبي معي، مر وقت طويل لم يشاهدوا فيه قلباً مع صاحبه، صرخ أحدهم: لا يزال حياً”. وكذلك في (حلب) فإن الموت يتسيد المدينة، ولكنه لا يحتمل أهوالها، في قصيدة الشاعر (فؤاد فؤاد) ينتحر الموت في (حلب) أمام المرآة: “الموت ينمو في الحارات الخلفية كنبات أسود، أو يسقط من السماء مطراً من الخردة المسمومة.  العابرون أيضاً يعرفون ذلك، الأولاد في مدارسهم، طوابير الخبر، صور القادة الممحية على الحائط، والعجوز كحني الظهر. في حلب، ينظر الموت في المرآة برهة ثم يضغط على الزناد”.

المدن العابرة بين الأحياء والأموات:

تحت عنوان (المدن والأموات) يتخيل الكاتب الإيطالي (إيتالو كاليفنو) مدينة (ميلانيا)، في هذه المدينة لعبة الحياة والموت هي مسرحية يؤدي فيها البعض دور الأحياء والممثلون الآخرون يؤدون دور الأموات: “الممثلون يموتون واحداً تلو الآخر، وفي أثناء ذلك الوقت يأتي إلى الدنيا هؤلاء الذين سيأخذون، بدورهم مكاناً في المشهد، هذا في دور، وذلك في دور آخر”. وفي (حلب) فإن الأدوار موزعة أيضاً بإيحاء مسرحي، فأولاً أفعال الحياة منوطة بالقاتل: “القتلة يعيشون طويلاً، يملكون الوقت ليسقوا النباتات في الحديقة المنزلية، ويذهبون قليلاً إلى المسرح، وعند الضرورة، يبدلون طقم الأسنان القديم، القتلة العجائز، تطرطق عظامهم حين يهرولون في الممشى البحري. خيط الدم مازال يسح خلفهم ككلب أعرج”. وثانياً أدوار الموت منوطة بالضحايا، بالأطفال الذين فارقوا الحياة، والحزن هو دور الأمهات: “حلب أمامي سوداء وساكنة، الظلال العملاقة هذه ربما لأشجار، ربما لغيلان قادمة من حكايات بعيدة في الطفولة، ربما هو بخار أسود ينفثه الآن نسوة ينتظرن أولاداً صاروا أرقاماً في نشرة الأخبار”.

المقابر مرايا المدن:

كما تخيل (إيتالو كالفينو) مدينةً تجسد قعر الموت، فإنه أيضاً يقدم تخيلاً للمدينة المقبرة (لودوميا)، فالمقبرة هي مرآة للمدينة الحقيقية، وكلما ازداد عدد الأحياء في (لودوميا) فإن المدينة المقبرة تتسع وتنمو، حيوية الحياة المؤدية حتماً إلى حيوية الموت: “على مقربة من كل مدينة مثل لودوميا، مدينة أخرى تحمل عائلاتها الأسماء ذاتها، إنها لودوميا الموتى، المقبرة. أما ميزات لودوميا الثانية فهي معروفة، فكلما ازداد سكان لودوميا الأحياء واتسعت، ازداد امتداد القبور خارج السور، حتى أصبحت لودوميا الموتى ومعالم طرقاتها ونظام مساكنها وأبنيتها، تكرار لما في لودوميا الأحياء“. كذلك الشاعر (غياث المدهون) يرسم (إيبر) على أنها المدينة المقبرة التي تتنكر بزي الحياة: “إيبر، أيتها المدينة التي تخفي قبراً كبيراً، أيتها المقبرة الجماعية التي تلبس قناع مدينة، حقيقة”.

المقبرة الممتدة في المستقبل الرقمي:

يأخذنا الشاعر (فؤاد فؤاد) إلى مقبرة من نوع جديد، إنها المقبرة التي تعيش في تاريخ الذاكرة الرقمية، يحاول الشاعر ابتكار المجاز الجديد لكثرة حضور الموت في المدينة، للتواتر الكثيف لصور الموتى على وسائل التواصل الإجتماعي التي تحولت في عيني الشاعر إلى مقبرة، تتالى فيها طقوس الدفن والعزاء: “مقبرة هو الـ facebook، بشمعة مرتجفة نقترب من صور أحبائنا، الضاحكين في الموت، وننحني لنبوس جباههم. بعد يومين، سيجف الآس، وينمو العشب البري في صفحاتهم ليطمس الأسماء، لكن الشمعة – ولو مرتجفة – سنمر بها على صور أحباء آخرين يضحكون في الموت”.

تتوسع جدلية مدينة الحياة ومدينة الموت في كتابات (كاليفنو) فتكمن خصوصية مدينة (لودوميا) بأنها ليست ثنائية التكوين وحسب، مدينة الحياة ومدينة الموت، بل هي أيضاً تضم (لودوميا) ثالثة هي لأولئك الذين لم يولدوا بعد. فالحياة والموت شرط مفروض حتى على القادمين من بشر المستقبل، هم قادمون إلى الحياة، المشروط فيها حضور الموت، جدلية الحياة والموت سلسلة تحكم قبضتها على وجود المستقبل: “لودوميا الموتى ولودميا الذين لم يولدوا بعد، كحبابتي الساعة الرملية التي لا تقلب، وكل مرور من الميلاد إلى الموت عبارة عن حبة رمل تجتاز عنق الوسط، وسيأتي للعالم ذلك الساكنُ الأخير للودوميا، أي سقوط آخر حبة من الرمل”.

وفي تخيلاته عن مدينة (أوسابيا) يوسع (كالفينو) المجاز، أو الشرط التخييلي لوجود مدينة للموتى، ليصبح هذ المجاز هو القاعدة، وليصبح مدينة الموتى هي المحرك والمثال التي تسعى مدينة الحياة أن تقلده. فمدينة الموت هي التي تتغير، تتطور، وتتوسع فتصبح هي النموذج لمدينة الأحياء الذين يقررون أن يبنوا مدينتهم لتجاور في تغيراتها مدينة الموتى. مدينة الموتى هي النموذج الذي يرغب الأحياء في تطبيقه على مدينتهم، المدينة السفلية إلهام المدينة الحقيقية: “الأموات في أوسابيا يتابعون وظائفهم كما قبل الموت، مغنو السوبرانو، رجال المصارف، وعازفو الكمان. الذين ماتوا يتابعون التجول ما بين أوسابيا الأحياء فوق وأوسابيا الأموات تحت. ولكن في كل مرة ينزل فيها الأحياء إلى أوسابيا الأوات، يجدون شيئاً متغيراً هناك في الأسفل، إذ يقوم الأموات بحمل تجديدات لمدينتهم، ويقولون بأنهم يكادون لا يعرفون أوسابيا الأموات من سنة إلى سنة أخرى. وحتى يبقى الأحياء على قدم المساواة مع أقرانهم الأموات فإنهم يريدون، هم أيضاً، تحقيق كل التجديدات، وهكذا تنسخ أوسابيا الأحياء صورتها السفلية”.

ذاكرة مدن الحرائق

في كل النصوص الأدبية السابقة، تحضر موضوعة الذاكرة. لكن ترتيب الذاكرة بين الموضوعات والمفاهيم السابقة تطرح إشكالية. فالذاكرة مختلفة عن التاريخ، والذاكرة المرتبطة بالحرب لاحقة عليها، وبما أن الذاكرة عابرة للموت فرأينا إمكانية وضعها في النهاية. في قصيدة (شيزوفرينيا) يزور الشاعر مدينة (إيبر) في ذكرى مئة عام على مجزرة السلاح الكيميائي الأولى في التاريخ، يحضر ليكون شاهداً على تعامل أحياء الحاضر مع ذاكرة الماضي، وليشهد على استمرارية الذاكرة حتى الأوان، حتى أن أجيال ما بعد الحرب تعيش تحت وطأة ذاكرة الحرب التي تروى لهم حتى يبلغوا حد تمني تكرارها. ذلك ما يتخيله (كاليفنو) عن مدينة (ديوميرا): “ديوميرا، المدينة ذات القباب الفضية الستين، والتماثيل البرونزية لكل الآلهة، والشوارع المرصوفة بالقصدير، والمسرح الزجاج، هي مدينة مؤثرة على الذاكرة، تسحب الزائر من الآن إلى داخل الذاكرة، فيعتقد أن ما يعيشه في اللحظة الراهنة هو أمسية من الذاكرة”.

ومدينة (دمشق) بالإضافة إلى كونها ذاكرة من العنف والحرب والموت، فهي أيضاً في ذاكرة الشاعر مرتبطة بالقمع، بالتخفي خوفاً من التعبير، بالسير بعيداً عن الحرية: “الطريق إلى دمشق مليئة بالذكريات، والطريق التي هجرتها عام 2008 لم تعد تغريني، فبعد أن تذوقت طعم الحرية، لم أعد قادراً على التخفي خلف المجاز، لكي أنجو من المخبرين“.

لا تحضر الذاكرة كمقاطع شعرية في قصيدة (حدث ذات مرة في حلب)، لكن الذاكرة حاضرة في العنوان، (حدث ذات مرة في حلب) مستلهم من عناوين أعمال أدبية وسينمائية أخرى تُخصص العبارة فيها لإفتتاحيات سرد الحكايات عن مدن، كما الحال مع أفلام مثل: (حدث ذات مرة في أميركا، سيرجيو ليوني، 1984)، (حدث ذات مرة في مكسيكو، روبرت رودريغز، 2003)، (حدث ذات مرة في فينيسا، 2017)، ومؤخراً (حدث ذات مرة في هوليوود، كوينتين تارانتينو، 2019)، و(حدث ذامرة في لندن، سيمون روملي، 2019). وهي تقارب لازمة بدأ السرد في الحكاية: “كان يا ما كان في قديم الزمان”، كما أن الديوان يضم قصيدة تالية بعنوان (يوميات)، وكأن الديوان شهادة أدبية عن حلب بين 2011-2015، فالشعر شهادة للذاكرة.

هذه هي من تجليات حضور المدن في الشعر، بالتركيز طبعاً على علاقة المدن والتاريخ، والحرب، والموت، والذاكرة.

*تلفزيون سوريا