عزت القمحاوي: مزحة الرواية

0

يحلو للنقد أن يمنح بعض الروائيين لقب «الكاتب الساخر»، استناداً إلى ما يبدو في أعمالهم من ملامح سخرية أو مزاح. هذه التسمية تنطوي على مشكلة صغيرة، إذ تتجاهل الخيط الرفيع الفاصل بين السخرية، من حيث هي عمل عالي الأدلجة (تحقيري وانتقادي)، وبين المزاح من حيث هو عمل منخفض الأدلجة (مضحك ومسلٍ ببراءة)، لكن هذه ليست المشكلة المهمة التي يتضمنها لقب «الكاتب الساخر»، بل إزاحته من أغلبية الكُتّاب إلى خانة «الكاتب الجاد»، وهذا وصف يتضمن بداخله مشكلتين جديدتين؛ الأولى تغمط الكاتب الجاد حقه، عندما تنزع منه ملكة المزاح التي تعد من خصائص الإنسان بشكل عام، وعلى العكس، تنزع صفة الجدية من الكاتب الساخر!
ولا يردم تلك الهوة سوى الاستناد إلى طبيعة الكتابة الروائية ذاتها، وأخذ تلك الطبيعة في الاعتبار جنباً إلى جنب مع السمات الظاهرة في النص من ملامح السخرية والمزاح عبر اللغة، وسلوك الشخصيات، ومصادفات الأحداث.
حلم الكتابة من بدايته حلم جاد، من يحلم بها يعرف من البداية أنها عمل صعب، مع ذلك يُقدم عليه لأن وجوده لن يكون كاملاً من دونه.
بعد ذلك يبدأ المتطلع إلى الكتابة في إعداد نفسه بالجدية الواجبة. الساخر وغير الساخر يضع كل دقيقة في حياته من أجل تكوينه الثقافي. يسعى إلى معرفة كل ما يحتاجه ولا يحتاجه الآخرون، من قواعد اللغة إلى تذوق الفنون إلى المعرفة بالنفس والجسد والطقس، وإجراءات التقاضي، وآلية عمل محرك السيارة، ومدة رقود الحمام البري على بيضه. وهو ليس بحاجة إلى احترام الكتب فحسب، بل إلى احترام الواقع وكل ما يجري فيه، واستقبال ذلك بامتنان، حتى الشر الموجه إليه شخصياً، كأن الواقع عرض مسرحي أُعدَّ خصيصاً ليكون في خدمة كتابته.
هذه الاستعدادات الجادة يمكن أن تصنع فيلسوفاً أو مفكراً اجتماعياً، لكنها وحدها لا يمكن أن تصنع روائياً، فذلك يلزمه المزاح مهما كانت جدية أو جهامة ما سيكتبه. المزاح ليس خياراً في الرواية، وليس طبيعة تكوين الروائي نفسه أو اختياره بمفرده، لكنه مفروض من طبيعة اللقاء بين الروائي وقارئه.
قراءة الرواية مزحة ولعبة متفق عليها بين الطرفين، تشبه لعبة الاختفاء. أليست «الاستغماية» في أصلها مزحة؟ نُغمِّي أحدهم ليبحث عنا في الزوايا القريبة بناءً على توقعاته لطريقتنا في التخفي.
القارئ الذي يشتري رواية قرر بكامل إرادته أن يلعب الاستغماية مع الكاتب، أي لديه النية المسبقة للمزاح، ولولا هذه النية ما استمر في قراءة الأكاذيب التي تقوم عليها الروايات، بل إن القارئ الحسَّاس لا يمكن أن يقبل بالروايات التي تخلو من الكذب، أي التي تخلو من المزاح. ومن بين البنود غير المدونة في العقد بين الكاتب والقارئ أن الأخير سيستمتع بالكذب دون أن يأخذه على محمل الجد، فلن يُجرِّب أحدهم أن يطير مع ملاءة مثلما حدث لريميديوس في «مائة عام من العزلة»، ولن ينتظر أحد العالقين صقراً لينتشله من هوة، كما حدث للسندباد في «ألف ليلة».
ولو تأملنا عمارة «ألف ليلة وليلة» السردية سنكتشف أن المزاح أحد أعمدتها الأساسية. وأهم مزاح في الليالي هو مزاحها مع التاريخ، ونلمسه في توجهات النص ونواياه المبدئية، وفي المتحقق داخل الكتابة سواء بسواء. وبوسعنا أن نأخذ مزاح الليالي كإجابة شافية للسؤال الصعب حول علاقة الرواية بالتاريخ.
الشخصية التاريخية الأبرز بلا جدال في الليالي، هي شخصية الخليفة هارون الرشيد الذي يخرج في جنح الليل مع وزيره جعفر البرمكي في تفقد ساخر لأحوال الرعية، يدفعه إليه الأرق والنية المسبقة في التسلية والمزاح، ودائماً ما يعثران على بغيتهما.
وبخلاف الوقائع التاريخية للفتح العربي للأندلس، تفتحها الليالي في مزحة من عدة أسطر (الليلة 271 طبعة القاهرة)، حيث تروي عن قصر مغلق، يُضيف كل ملك جديد من ملوك إسبانيا على أبوابه قفلاً، إلى أن جاء ملك من خارج بيت المملكة، أخذه الفضول لمعرفة ما بداخل القصر، ولم يستمع إلى التحذير، وما إن فتح الباب حتى وجد صوراً للعرب على ظهور الخيل، فكان هتك سر القصر سبباً لتحقيق نبوءة النصر العربي!
وتبدأ قصة اكتشاف «مدينة النحاس – الليالي من 566 إلى 578 طبعة القاهرة» باجتماع للخليفة عبد الملك بن مروان مع خاصته ليناقشوا أمراً خيالياً: أمر الجن العصاة القابعين في قاع المحيط الذين عاقبهم نبي الله سليمان بحبسهم في قماقم من النحاس مختومة بخاتمه، وتمخضت المزحة عن تشكيل لجنة للتحقق من الأمر أبحرت باتجاه المغرب لتضع نفسها تحت أمرة الصحابي موسى بن نصير الوالي على المغرب. (تُسميه الليالي موسى بن نصر) وعندما نبحث في كتب التاريخ نجد قصصاً تتعلق باسم الصحابي تقول إن لقبه كان نصر فعلاً وتم تصغيره إلى نصير: هل كان رواة «ألف ليلة وليلة» يعرفون هذه المعلومة غير القوية، وأرادوا إيقاظها؟ هل قصدوا تصحيف الاسم وتغييره لصنع مسافة من التاريخ؟
هناك وظيفتان للرواية عندما تدخل إلى التاريخ: الأولى إيقاظ النائم من التاريخ الرسمي، والثانية عدم التطابق التام معه. وقد انتهت اللجنة برئاسة موسى بن نصر إلى اكتشاف مدينة النحاس الممسوخة، التي تحوي وفرة من الذهب والجواهر. وتعود البعثة بأموال كثيرة للخليفة. في كتب التاريخ الرسمي حمل موسى بن نصير إلى الخليفة أموالاً طائلة من المغرب بالفعل، لكنها أموال جباية، ولكن الليالي تقوم بإزاحة الأموال إلى أصل أسطوري، بل جعلتها تتجاور مع القماقم؛ إذ عادت البعثة كذلك بقماقم فتحوها في حضرة الخليفة فخرج منها الجن يتوسلون إليه العفو عنهم متصورين أنه النبي الذي حبسهم!
«دون كيخوتة» أم الرواية الغربية ليست سوى مزحة فكر فيها سرفانتس على هذا النحو، وأخذت، ولم يكن من الممكن أن تستمر إلا بفضل تواطؤ كل من قابلهم الفارس الهزيل؛ فأي ممن صارعهم كان بوسعه أن يقضي على الفارس الواهم بضربة ويُقوِّض الرواية. ولا يمكن أن يكون دوستويفسكي قد كتب رواية «المِثل أو القرين» دون أن يمتلك إرادة المزاح على الرغم من ميلودراما النص القوية، ولم يفعل ذلك إلا لعلمه بأن القارئ سيتواطأ معه ويتابع حياة ياكوف بتروفتش جولدياكين، الكاتب في إحدى الإدارات الحكومية، وقد جعل الكاتب له قريناً مطابقاً يتبعه في كل مكان حتى أنه يحصل على وظيفة بالإدارة نفسها، ويجلس مقابله على طاولة النسخ، ويحتل مكانة بالتزلف للرؤساء.
وهل كان من الممكن لرواية «المسخ» أن تنشأ سوى من نية مازحة لدى كافكا رغم حزن التفاصيل؟
نجيب محفوظ كتب «ليالي ألف ليلة» بنية المزاح مع التاريخ وألف ليلة معاً، لكن القليل المتواتر شفاهياً من سيرة الكاتب المتكتم نجيب محفوظ، يؤكد أنه استهدف بمزاحه الجيل التالي له؛ جيل الستينيات، وقد أكثر بعضهم من الحديث عن مشروع لتأسيس رواية عربية انطلاقاً من التراث، وعندما نستعيد اليوم مزاحه ثلاثي الأبعاد (مع التاريخ وألف ليلة والواقع) نرى ذكاء السخرية في اشتقاقات الأسماء ونسخ وقائع التاريخ وجرأة الخيال المازح الأشجع من الأصل، حيث استنهض محفوظ قوة الجن في مدينة مزدحمة، بينما تظهر في «ألف ليلة» بالأماكن المعزولة. من باب إنكار العفاريت، يردد القاهريون مثلاً دارجاً: «ما عفريت إلا بني آدم»، لكن محفوظ مرَّر الكذبة بقدرته العالية على المزاح.
وبالمناسبة؛ فإن استعارة عالم ومحاكاته لا يحدث إلا في حالتين: حالة الكاتب الساذج الذي لم يعرف بعد الخوف من قوانين وشرطة الإبداع، وحالة الكاتب الواثق من حساسيته إلى درجة تجعله متأكداً من قدرته على الإفلات من المساءلة بمزاح يضع القوانين في خدمته، وفي خدمة رسالة النص.
في تقديمه للطبعة العربية من كتاب «الأسلوب المتأخر»، يكثف مايكل وود خلاصة رؤية إدوارد سعيد للمزاح بوصفه شكلاً من أشكال المقاومة، ويتفق معه في قدرة المزاح على فعل ذلك.
هذا يؤكد أن المزاح واللهو في الأدب، ليس أقل قيمة من الجهامة الواقعية، ويصعب أن تكون هناك رواية رفيعة دون أن تكون حُبلى بالسخرية، الأمر الذي يجعل من لقب «الكاتب الساخر» شيئاً بلا معنى، أو يجعله واسعاً إلى درجة يجب أن تشمل كل الأذكياء.

*الشرق الأوسط

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here