الطمأنينة هي ما تشعر به بعد قراءتك لرواية “المئذنة البيضاء” (منشورات المتوسط 2021) لـ يعرب العيسى، لا تطمئن على أحوال العالم الذي أسّسه ورواه، بل ترتاح وتتنفس بعمق لمخيلته التي طارت بعيدًا عن منابع الحكايات في عُشنا السوري، ومع ذلك فالرواية لا تغرّب في أسئلتها، ولا تحاكي أمكنة فانتازية مخترعة، فهي متورطة بكل مسامها في سؤالنا اللحظي، غير مبتعدة عن السؤال السوري/العربي براهنيته – بل تلامسه بعمق- لكنها بتكنيك فيه كثير من المهارة تجعلك تلهث وراء أحداثها كما لا تفعل عند قراءتك لكثير من الروايات، فالتشويق عنصر يعتمده بحذر “الكتّاب الجادّون” إما عجزًا أو ترفعًا، حيث بالمجمل يفرشون حكاياتهم على مهل تاركين أحداثها لتطبخ تحت سمعنا وبصرنا. وهذا ما لا يفعله يعرب العيسى حيث بقصدية واعية يرميك بمعلومات وحقائق وأرقام لا يمكنك أن تدّعي أنها ملفقة لعجزك عن إثبات العكس، فلا تستطيع إلا أن تقتنع أن ما رواه العيسى ليس إلا تحقيقًا صحفيًا استقصائيًا، لم يستطع كاتبه إلا تطعيمه بانزياحات روائية لا براء منها، فتتلاطم دفة العمل بين التقريري والنثري، الشعري والروائي في ألعاب لغوية شديدة الجودة، عالية الاحتراف حيث في المئذنة البيضاء، هناك وعلى الدوام عاصفة لغوية تجرك من انهدام زلق إلى قمة شاهقة، فيمسك بك حدث يرفعك إلى آخر موسعا لك الاحتمالات في متوالية رياضية يجيد يعرب العيسى ترتيب أرقامها وحساب نتائجها.
في “المئذنة البيضاء” هناك ماراثون يجذبك دومًا لتشترك به، فلا تهدأ الرواية إلا عند عودة البطل إلى دمشق. كما عودة الأبطال الأسطورين من ارتحال لا يخفت. إذًا هكذا ومن الصفحة الأولى يترك العيسى بطله الأوحد ليتابع قفزاته من قمة إلى أخرى في حبكة شيقة، وبنية أحداث ذات تركيب مضبوط، فتظل تركض طويلًا وراء بطلك وتراقب قفزات أحلامه وهي تصل ذروات جديدة كمن يصل نشوته بأورغازمات متلاحقة. لكن النشوة الوحيدة المخدرة التي يبغيها البطل هنا هي النجاح، “فغريب الحصو” الذي ستحيله بيروت إلى “مارك الشرقي” بطل من نوع خاص، لا يحمل عقب أخيل، رذيلته الكبرى إصراره على أن يحصّل القبول من مدينة نبذته، فكأن دمشق هي امرأة البطل الوحيدة التي لم يستطع الاندغام بها، طلب حبها ولم يستطع أن يحصل عليها إلا كأفّاق، أو نبي دجّال. ومع أنه مشى في كل الطرقات الملتوية وتلوث حتى نخاعه برذائل الأرض إلا أنّا كقراء لا نستطيع إلا أن نتماهى معه، فمن منا لم تنبذه مدينته يومًا، ولم يفجع بغربة طاحنة في معترجاتها. كأن المدن خلقت هنا لنُدعس على أرصفتها ونتمرغ بذكراها كأننا في حداد لا ينقطع.
هكذا إذا يُنبذ “غريبنا” غريب الحصو أو مايك الشرقي إلى جهات العالم كله باحثًا عن بديل لتلك المدينة، مدينة دمشق متناسيًا مئذنته البيضاء دون أن ينجح أو يسمح لنفسه بأن يخدّر بالنجاح.
لكن حين “تمام الزمان” يعود الغريب إلى طرقات المدينة تلك، يعود إلى الشام، فتصفق لعودته المنتصرة تلك، تصفق لنجاته من المكائد وأنت تضع يدك على قلبك، تعتقد أنه يستحق العقاب لكنك بفرح وغصة في الحلق تسعد لنجاته، فالكاتب هنا يجبرك على أن تكسر “الكود” الأخلاقي الذي نشأت عليه، فتتعاطف مع خلطة دناءة وإجرام، نفعية وخبث، تفعل كل هذا منتشيًا بقدرتك على الاحتفاء بالشريرين، غير آبه بما يعنيه كل هذا. لأنك بضمير انتقائي غير مرتهن لقراءات أخلاقية مملة، لا تستطيع إلا أن تحتفل بانتصار الضعفاء، الفقراء، النابهين، فانتصارك لنجاحات غريب الحصو، أو مارك الشرقي هو انتصار للناجين وهم يلتحفون بأغطية من ماتوا بقربهم كي لا يقضوا من البرد، هو انتصار لأم منحت لعبة ابنها المقتول لطفلها الآخر، هو ذات الفرح وذات الغصة التي تسمح لك بالاحتفال بجنون “الجوكر”، وهو يفتح سلاحه في وجه الكل ملوثًا إياهم بالإدانة والدماء.
الرواية متشّربة بالمدن وإشكالاتها العمرانية والسوسيولوجية، هي نتاج حداثي لمجتمع تخلى دون هوادة عن قصصه السهلة ملتحقًا بحفريات سردية أكثر تعقيدًا، فتحكي المئذنة البيضاء سيرتنا مجدولة مع سيرة المدينة، تحكي مفاصل ارتقائية تقفز من الماضي نحو الحاضر بإلحاح، يرويها يعرب العيسى لا ليحتفي بها، أو يحذر منها أو يبشر بتكرار حدوثها فقط، بل ربما ليظللها بألوان مضيئة كما نفعل بالجمل المفتاحية علّ -الكاتب هنا- يستطع لجم واقع مكلّل بالخزي، واقع يحصل تحت سمعه وبصره، يحضر نابضًا بين يديه، عاشه ولا يزال يعيشه في لحظية موجعة، واقع لا يريده يعرب العيسى أن يصبح تاريخًا. فمن يريد لهذا الحاضر أن يحمل نهائية التاريخ، ثقله ووصمته؟
الكتابة الحاذقة والمتقنة للرواية تجعلنا نتردد قليلًا قبل القول إن المئذنة البيضاء هي العمل الروائي الأول ليعرب العيسى، مع أنها كذلك. فالعيسى ليس طارئًا على محفل الكتاّب، فهو آت من تاريخ طويل مارس فيه الصحافة بأكثر أجناسها تنوعًا، حيث كان ولا يزال جزءًا فعّالًا من المشهد الثقافي السوري واشتبك طويلًا ولا يزال مع أكثر أسئلته إشكالية وراهنية، فالراهن هو سؤال كبير في كتابات يعرب العيسى، وفي المئذنة البيضاء أيضًا، إذ بكثير من الجرأة يقدم العيسى تشريحًا لماضٍ لم يصبح تاريخًا بعد، حيث ما زلنا نقبع بعباءته مرتجفين من الإمكانات المدمّرة التي منحها وسيجرؤ على منحها لنا حاضرنا الحديث.
على العكس مما تبدو عليه الرواية في ارتكازاتها التاريخية الكثيرة، لكن الكاتب لا يتكئ على التاريخ ولا تبهره الاستخلاصات التي طبخت بوصفات الأقدمين، فالمئذنة البيضاء رواية غير مستكينة للقراءات الآمنة، تقدم رؤية أقل ما يقال عنها أنها شُجاعة كونها قدمت أجوبة من الصعب تحصيلها في خضم فوضى أسئلة إعجازية لا تتوقف بلادنا عن طرحها. ففي لحظات الارتباك التاريخية، ومنها ما يعيشه واقعنا العربي الآن، يبدو من الصعب تقديم قراءات غير متهورة أو انحيازية، لكن المئذنة البيضاء تجد طريقها في تلك المتاهات الأفعوانية لحاضرنا الزلق، متاهات لا ننفك عن الوقوع بها مع كل اشتباك لحظي لسؤال راهن.
*ألترا صوت