عبد الله الساورة: فيلم «ست دقائق قبل منتصف الليل» خدعة التاريخي في قالب تجاري

0

تختلف نقاط الكتابات السردية حول الحرب العالمية الثانية، ونقاط الارتكاز وبناء الشخصيات وعمقها وجوانبها النفسية، في كل اقتراح جديد في إخراج فيلم سينمائي جديد عن هذه الحقبة المخيفة. ويواجه هذا التحدي في سرد ​​قصة تجلب رؤية مختلفة لواحد من أسوأ الأحداث التاريخية في القرن العشرين.
ينحو فيلم «ست دقائق قبل منتصف الليل» (six minutes to midnight) وهو ثالث فيلم روائي طويل للمخرج أندي جودارد، وهو مخرج يتمتع بخبرة كبيرة في إخراج مسلسلات تلفزيونية. أندي جودارد (مواليد 1968) مخرج وكاتب سيناريو بريطاني، اشتهر بكتابة وإخراج أول فيلم روائي له «أشعل النار في النجوم» (2014) وأخرج وشارك في إنتاج فيلمه الثاني «السكين» (Kind of Murder) (2016). مخرج قادم بخلفية المسلسلات التلفزيونية التي أخرجها بشكل كبير (20 مسلسلا). يقدم فيلمه الثالث «ست دقائق قبل منتصف الليل» أو بعنوان آخر «بنات الرايخ» (إنتاج 2020/ 99 دقيقة / المملكة المتحدة) بمزيج بين الفيلم التاريخي والجاسوسية. فيلم يحاول التعمق في العلاقات الأخوية غير المريحة الموجودة بين المملكة المتحدة وألمانيا، التي عاشت في الحرب العالمية الثانية أكثر لحظاتها اضطرابا وانتكاسة ومأساوية.

ورقة المساومة

يركز الفيلم الذي أخرجه أندي جودارد، على العمارة الهندسية الجميلة لمدرسة أوغوستا فيكتوريا للبنات، وهي الواقعة في جنوب إنكلترا. هذا هو بالضبط المكان الذي ترسل فيه القيادة النازية بناتها من أجل التحدث باللغة الإنكليزية وإعدادهن ليكن ألمانيات بمعنى الكلمة. المديرة (جودي دينش) ومعلمتها الرئيسة (كارلا جوري) تتأكدان من أن هذا هو الحال، على الرغم من وجود منصب شاغر سيشغله توماس ميلر (إيدي إيزارد) في اللحظة الأخيرة.
من أجل خلخلة البنية السردية، نكتشف جثة معلم على الشاطئ وحدوث سلسلة من الأحداث التي ستجعل الفتيات ورقة مساومة في الحرب. علينا أن نتذكر أنه عام 1939، وأن هناك حربًا في طور التكوين. بنات القادة النازيين الكبار غنيمة قيمة للغاية في يد إنكلترا. ما لا يتوقعه أحد هو أن كل شيء يتحول إلى حلقة من التجسس والاضطهاد وعدم معرفة أي جانب يقف إلى جانب الآخر. يحتوي الفيلم على حالات صعود وهبوط حادة، ومواقف مشكوك في نصها، لكنها تحافظ على الاهتمام حتى النهاية، طالما أن الجمهور يتابع الفيلم حتى النهاية في لعبة التشويق.

خدعة المدرسة التاريخية

المدرسة الواقعة في جنوب إنكلترا هي المكان المثالي لتطوير حبكة مبتكرة على المستوى السردي، وبناء شخصيات عميقة تلتحم بالحدث. فيلم يتم فيه تجميع بنات كبار مستشاري الرايخ معا، واستخدامهن كورقة مساومة لدولة ترى الحرب تقترب من حدودها. ويتم تجاوز بنات الرايخ عندما يتم تجاوز حدود مدرسة أوغوستا فيكتوريا في حدودها التربوية والتعليمية، وتتحول إلى لوكر للجاسوسية وعمليات مطاردة غير ضرورية على الإطلاق، وينقلب إيقاع الفيلم كليا. لا تحمل المدرسة ظلالا سردية تنعكس على الجوانب النفسية لشخصيات الفيلم، كأن المكان مجرد زيارة هامشية لمتحف في الطريق.
بين جدران هذه المدرسة يتم إنشاء العديد من الأفكار المثيرة للاهتمام: بناء المواقف المتعصبة ورفض العنصرية والتنمر في المدرسة. ربما يكون الشيء الأكثر إثارة للاهتمام في الفيلم هو ملاحظة رضا شخصية الممثلة الكبيرة جودي دينش في مواجهة الأفعال الفاشية التي تحدث في مدرستها، وهي أفعال لا يبدو أنها تشاركها على الإطلاق. ينعكس هذا التسامح المفرط عندما تحدق الآنسة روشول (جودي دينش) في عيون توماس ميلر من خلال المساحة الصغيرة التي يتركها الباب مواربا.
هناك مسألة أخرى مهمة لا يتعمق الفيلم في الجوانب المظلمة للشخصيات، ويترك نقاطا بيضاء فارغة هنا وهناك.. فقط في لحظتين محددتين نسأل أنفسنا: هل من الجيد حقًا بقاء البنات في إنكلترا؟ في بقية الوقت، تفرض بنات الرايخ علينا بلا خجل، مدى سوء حالة الألمان، دون مصلحة في تطوير نوايا الجانب الإنكليزي ودون تفكير بقية الطالبات.

لعبة المطاردة

يمكن تلخيص النصف الثاني من فيلم «بنات الرايخ» في رحلة طائشة لشخصية إيدي إيزارد هربا من رجال الشرطة. يلجأ الكثير من الكتاب إلى لعبة المطاردة وهي لعبة شهيرة في الكتابة السردية، للخروج من انحسار المكان، أو حينما يضيق المكان بشخصياته. عند هذه النقطة، تتحول النغمة الغامضة والبناء السردي في الفيلم إلى محاولة للهروب من الحقيقة التاريخية، وفي تحول سردي يبرز المنحى التجاري المزركش للفيلم منسما بتوابل تاريخية، وقصة جاسوسية غير مكتملة. من المعقول أن نقول إن إمكانات بنات الرايخ لا تزال محصورة في مدرسة أوغوستا فيكتوريا، ولن تغادرها مرة أخرى. يبدو أن الغرض الوحيد من الاضطهاد والمطاردة هو إطالة زمن الفيلم. هذا التمدد الزمني، لم يكن مناسبا للاستقرار السردي وإيقاع الاحداث بهذه الطريقة. إن اتخاذ هذا القرار لم يكن مجديا لإنتاج فيلم، يبدو أنه يحمل حجابا تجاريا، دون عمق تاريخي، ودون عمق في بناء الشخصيات.. إن مشاهدة شخصية إيدي إيزارد وهو يركض لفترة طويلة يصبح أمرا غير معقول بشكل رهيب في نظر المتفرج، الذي لا يمكنه إلا أن يتساءل من أين يحصل على هذه القدرة على التحمل كأنه بطل أولمبي.

البناء الفني

إذا كان عليّ أن أتحدث عن جانب إيجابي في فيلم «بنات الرايخ» فلن تكون المواجهات والإيماءات المبالغ فيها، عندما يتعلق الأمر بالهدف ولا نتائجه. ولا تفسيرات الممثلة جودي دينش، والشابة تيجان ماري، التي تدخلنا في عمق القصة. إنه لأمر محزن عدم استغلال هامات طويلة في التمثيل وتاريخها الطويل في الغوص في الجوانب المظلمة للشخصيات الفيلمية.. التصوير الفوتوغرافي رائع، حيث يعتمد تصميمها الفني الجيد على المشاهد واللقطات التصويرية في صور رائعة للمدرسة وللسواحل البريطانية التي تريح العين من لعنة المطاردة. رتبت المشاهد بشكل مثالي لتسليط الضوء على وجود الأبطال والبيئة التي تنتمي إليها المدرسة. ومع ذلك من الصعب عدم ملاحظة أن الفيلم تحيط به هالة متلفزة بسبب خلفية المخرج القادم من ساحة المسلسلات التلفزيونية.

الفيلم بين التاريخ والجاسوسية

ما يبدو في البداية واضحا للغاية يتلاشى قبل النهاية، دون أن يعمد المخرج أندي جودارد، إلى إيضاح المهمة وهي توقع تحركات الدولة المنافسة، أم حماية بعض الطالبات اللواتي سيصبحن جزءا من الجانب الآخر؟ ما الذي يريده المخرج بالضبط؟ هذا السؤال لا يعرف المخرج جودارد كيفية حله، ما تسبب في إرباك القصة عوض أن يكون الفيلم بمنحى تاريخي جذاب حول العلاقات المتعارضة بين البلدين، قبيل الحرب العالمية، كما الحال مع فيلم «أرض الألغام» و»تحت الرمال». فيلم تجسس يحول سياقه التاريخي إلى مجرد واجهة لا أثر لها، كما أنه لا يصلح كقصة شخصية بحيث لا توجد شخصية في الفيلم تمكنت من التميز على المستوى العاطفي، وهو ما يبعد الفيلم أيضا عن عناوين مثل أفلام «كيس من الرخام» أو «العام الذي توقفنا فيه عن اللعب» للمقارنة بينها.
ينتهي المطاف بالفيلم في اللعب على منوال أفلام مثل «أغنية الأسماء المنسية» أو «بائع التبغ» أو «الرجل ذو القلب الحديدي» وهي أفلام تتألق بضخامة إنتاجها وتسويقها التجاري، مع تصميم فني رائع، ينضاف له أداء قوي بفضل طاقم الممثلين المحترفين، لكنها تفشل في تقديم قصة مختلفة للأحداث التي أعاد إنتاجها الفن السابع في مناسبات لا حصر لها، حول الحدث التاريخي نفسه، وكأنها فرصة ضائعة عندما يتعلق الأمر بمعالجة العلاقة التاريخية بين المملكة المتحدة وألمانيا.
يسعى الفيلم إلى إظهار محاولات استعادة تلك الروابط التاريخية التي كانت قائمة بين البلدين، لهذا السبب يعرض الفيلم على الشاشة الكبيرة تاريخ المؤسسة النسائية التي قامت في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، بتعليم المراهقات الثريات القادمات من ألمانيا في جنوب شرق إنكلترا. ومع ذلك، ما كان يمكن أن يكون دراما حول التناقضات التي عانت منها الشابات الألمانيات، بنات السياسيين والحكام النازيين، المتعلمات في نظام ديمقراطي وبعيدا عن التأثير للرايخ الثالث، ينتهي به الأمر إلى أن يصبح فيلم تجسس في قالب تجاري، في انتظار ما يحدث للفتيات، اعتمادا على ما إذا كانت ألمانيا والمملكة المتحدة ستعلنان الحرب.
في نهاية المطاف، فإن فيلم بنات الثراء القادمات من ألمانيا، أو «بنات الرايخ» لا يستند إلى أحداث حقيقية لكنه يستغل هذا المعطى التاريخي لبناء منتوج فني تسويقي ليس إلا. صحة الوقائع التاريخية مشكوك فيها، لأن الشيء الوحيد الموثوق به هو موقع المدرسة بشكل عام.
يبني المخرج جودارد قصة خيالية فارغة تقريبا من أي بعد تاريخي، وماذا عن ست دقائق المتبقية عن منتصف الليل.. لا شيء سوى بقايا فيلم يتبدد بين شكليات التاريخ والجاسوسية والمطاردات. من الواضح أنه لا يمكننا طلب المزيد من مخرج يسعى إلى فيلم تجاري، دون البحث في كتابة سيناريو ببناء متماسك وجيد. من ناحية أخرى يمكن رؤية الفيلم بشكل مثالي كمشروب سيئ، بل يمكن أن يكون فيلما مسليا وترفيهيا إذا لم نأخذه على محمل الجد وأبواب النقد السينمائي.

*القدس العربي