في عام 2015، وبعد أيّام قليلة من قيام السعودية بالحُكم على الشاعر الفلسطيني أشرف فيّاض (1980) بالإعدام، بتهمة “التشكيك بالذات الإلهية”، خرج الشاعر المغربي عبد اللطيف اللَّعبي، المقيم في فرنسا، ليكون من الأصوات الأولى التي تدافع عن فيّاض في لغة موليير. دان اللَّعبي حينها اغتيالاً ــ يريد لنفسه أن يكون “قانونياً” ــ للشاعر الفلسطيني، واصفاً تصرّف السلطات السعودية بـ”البربري”، وساعياً إلى تقديم القضية إلى قرّائه الفرنسيين والفرانكفونيين.
بعد أيّام قليلة من إدانة اللَّعبي تحوّلت قضيّة فيّاض إلى مسألة تهمّ صحفاً وشخصيات فرنسية معروفة، مثل وزيرة العدل السابقة كريستيان توبيرا، والعديد من الكتّاب، الذين راحوا ينظّمون فعاليات التضامن والبيانات ورسائل الدعم والإدانة من أجل الدفاع عن الشاعر الفلسطيني.
وليس من المبالغة القول إن إلغاء حكم الإعدام على الشاعر، بعد ثلاثة أشهر من ذلك الوقت، أي في شباط/ فبراير 2016، يدين بالكثير إلى حملات التضامن، العربية منها والأوروبية، التي ذكّرت السعودية بأنّ فيّاض لم يكن وحده، وأنّ العالَم يشاهد تصرّفاتها. منذ ذلك الوقت واللَّعبي لا يكفّ عن تقديم الدعم للشاعر المعتقَل، حيث ترجمَ قصائد له، نشرتها صحفٌ فرنسية معروفة، مثل “ليبيراسيون” و”لومانيتيه”، وأصدر له، بالفرنسية، ديوانين من ترجمته: “التعليمات بالداخل” (2016)، وهو الكتاب الذي يشكّل أحد أسباب اعتقال فيّاض، و”أعيش لحظاتٍ صعبة” (2019).
وعلى أيّ حال، لم يكن موقف اللَّعبي هذا غريباً على شاعر عُرف بوقوفه إلى جانب القضايا العادلة، وأبرزها القضية الفلسطينية، التي يُعَدّ من الأسماء التي لطالما رفعت صوتها، في العالَم الفرنكفوني، لتسليط الضوء عليها، ولإيصال صوت المبدعين الفلسطينيين إلى القارئ الفرنسي، في مسعى لتقريب ثقافةٍ وشعب تتركهما الأوساط الإعلامية والنشرية في فرنسا على مسافة.
فقد قدّم اللَّعبي جوانب من فلسطين في العديد من الأعمال، حيث بدأ ترجماته إلى الفرنسية بأنطولوجيا من شعر النضال الفلسطيني (1970)، ألحقها بأنطولوجيا أخرى للشعر الفلسطيني المعاصر (1990)، وبترجمة لقصص فلسطينية (1991)، كما نقل أعمالاً للعديد من الكتّاب والشعراء الفلسطينيين، مثل غسّان كنفاني، وسميح القاسم، ومحمود درويش الذي كان اللَّعبي أول من ترجمه إلى الفرنسية.
هذا الأسبوع، عاد اللَّعبي إلى قرّائه بنصٍّ، نشره على صفحته في “فيسبوك”، حول الاعتداءات الإجرامية التي يرتكبها الصهاينة في فلسطين هذه الأيام، مرفقاً هذا التعليق بترجمةٍ لقصيدة جديدة لأشرف فيّاض، كتبها الأخير في سجنه، واستطاع اللَّعبي الحصول على نسخة منها؛ قصيدة لشاعر فلسطيني يقول اللَّعبي إنه يستطيع أن يعبّر أكثر منه عمّا يقاسيه الشعب الفلسطيني. في تعليقه، دان الشاعر المغربي العدوان الإسرائيلي الذي وصفه بأنه يهدف إلى “جعل الشعب الفلسطيني شعباً بلا أرض”، وإلى “إنهاء وجود الفلسطينيين إلى الأبد” على أرضهم.
ويشير اللَّعبي إلى أنّ هذه الخلاصة ليست خلاصته، بل ما وصل إليه الشعب الفلسطيني، داخل فلسطين وخارجها، بعد أن وجد نفسه وحيداً ومتروكاً لمصيره، مِن قبل العالَم أجمع، بما فيه الدول العربية. وهو يربط بين وصول أبناء الشعب الفلسطيني إلى هذه الخلاصة وبين “تحرّكهم جميعاً لمواجهة الاحتلال وسياسة الأبارتهايد التي يقاسونها”، كما يذكّر بأنّ اعتقاد المسؤولين الصهاينة بقدرتهم على إنهاء وجود الشعب الفلسطينيّ على أرضه جاء بتشجيع من التطبيع الذي تراكضت إليه بعض الدول العربية “الخائنة”، إضافة إلى الدعم الأميركي.
وأمام الحضور الكثيف للسردية الإسرائيلية في الإعلام الفرنسي، أضاء اللَّعبي، في نصّه المقتضب، على مقاومة الشعب الفلسطيني، هذا “الشعب المتعلّم، الذي يعرف تاريخه على أفضل وجه، والذي يعي أصالة هويّته، والمتمسّك بقوّة بالمبادئ الإنسانية التي تؤسّس الحقّ الثابت لكلّ شعب في الحرّيّة والكرامة الوطنية”.الصورة
هنا نصُّ قصيدة أشرف فيّاض.
فرضيّة قيامة
الألم كلٌّ غير قابل للتجزئة!
كتلةٌ ثقيلة وكثيفة، كيان قائم مستقلّ.. بالغ القسوة!
لا يمكن الشعور به على دفعات
ولا يمكن السيطرة عليه
إعصار مداريّ.. عاصفة هائجة
طوفان يغمر كلّ شيء
زلزال مدمر، بركان ثائر، جبل جليدي ضخم يجثم فوق صدري!
جسدي يرتعد كصفيحة قارّية متخبّطة!
قلبي نيزك أرعن يتخبّط في ثقب أسود شديد الغموض
جلدي إسفنجة فقدت قدرتها على الامتصاص
رئتاي منفضة سجائر متخمة بالرماد
عيناي كرتان حمراوان
وشفتاي أرض طينية لم يزرها المطر منذ عقود.
الغيوم كتل بنية معجونة بالسواد، تبتلع أشعة الشمس المصابة بالعمى!
المطر أحماض عالية النقاء، كتلك التي تفور في معدتي باستمرار!
أمعائي مستنقع من الألم، والندم فايروس يلتهم ذاكرتي!
حذائي زجاج مكسور
وأصابعي معدن منصهر
جمجمتي وعاء مملوء بزئبق يغلي
وأعصابي دائرة كهربائية معطوبة.
صبري شجرة متفحمة تبعث دخاناً خانقاً
والضوء لم يعد خياراً متاحاً على الإطلاق!
(العربي الجديد)