“الشعراء يتكاثرون بشكلٍ غريب حتى صار لكلّ مواطن ثلاثة شعراء، إنهم يملؤون الشوارع بقبّعاتهم الغريبة، ويتسبّبون بأزمة سير حقيقية على الأرصفة. وهم السبب الرئيسي في التغيُّرات المناخية السيئة مؤخراً”. لهذه الأسباب وغيرها؛ يطلب الكاتبُ مصطفى تاج الدين الموسى المساعدةَ للتخلُّص من الشعراء، وذلك في مجموعته القصصية الأخيرة “ساعِدُونا على التخلُّص من الشُعراء”.
أتوقّف في قراءتي لهذه المجموعة الصادرة عن “دار نون 4، غازي عنتاب، 2019″، والـمُشتمِلَة على 74 قصةً امتدّتْ على مساحة 443 صفحة؛ عند المكان بنوعيه، والزمان بنوعيه، وعند السِّمتين الأسلوبيّتين الأبرز وهما الكوميديا السوداء والعبثيّة، ثم أختَتُم بالنزعة الإنسانيّة.
المكان عنصرٌ أساسيّ من عناصر تشكيل الفضاء السردي، لكنّ الفضاء أوسعُ منه، ويتميّز المكانُ في مجمل القصص بأنه مُحدَّدٌ وغيرُ محدود في آنٍ معاً. والمكانُ نوعان: مكان واقعي ومكان سُوريالي، دونَ وجود حدودٍ واضحة بينهما. المكانُ الواقعي هو غالباً: “غرفة الكاتب- المقهى- الحانة”، وبدرجة أقل: “الشارع- الحديقة”، وغالباً ما يتأثّثُ المكانُ بطاولةٍ وكتُب وأوراق ولوحات، ويكون بطلُ القصة (الراوي بضمير المتكلّم) يشرب القهوة أو النبيذ، ويدخّن السجائرَ بكثرة. وكمثالٍ على المكان الواقعي نأخذ قصة “موت حديقة” التي تدور أحداثُها في قرية تركية لجأ إليها عددٌ من السوريين، وتظهر فيها سيدةٌ نازحة ترتدي عباءة سوداء وتجلس على مقعدٍ في الحديقة، تمسكُ بيدها اليُمنى نسخةً من القرآن الكريم وباليُسرى سُبحةً طويلة، وترتّل آياتٍ بصوتٍ خفيض ثم ترفعُ رأسها وتتحدث مع الفراغ. بعد ذلك تتماهى شخصيةُ هذه السيّدة النازحة مع والدة الراوي، ثم مع جميع الأمهات السُّوريات اللواتي باعدت الحربُ بينهنّ وأولادهنّ.
أما في المكان السُّوريالي فتنفتِحُ الحدودُ بين عوالم الكون الأدبي الثلاثة (السماء والأرض والجحيم)، وبين الحياة وما قبلها وما بعدها، مثل قصة “التعاسة في وادي البالونات” التي تتحدّث عن استياء رجال الأرض من نسائها بسبب “أفكارهنّ ونَكَدهنّ واستغلالهنّ للرجال”، فيقرّرون السفرَ على متن مركبة فضائية والعيش على كوكبٍ آخر، وهناكَ يردّدُ الرجالُ شعاراتٍ معادية للنساء كلَّ يوم مسرورين. ولكنْ بعد انقضاء سنة واحدة هناك، يشيخُ الرجال وكأنهم قد عاشوا عدداً من السنوات. ثم يكتشف الراوي وادياً على سطح ذلك الكوكب، فيه آلافُ البالونات التي يستعملها الرجال -سِراً- لإرسال مكاتيب إلى حبيباتهم على الأرض.
وفي الزمان أيضاً ثمة زمنان: الزمن الواقعي المتعاقب (الكرونولوجي)، والزمن الأسطوري الذي لا يتقيّد بخطّ التاريخ وعقارب الساعة. نجدُ الزمنَ الواقعي المتعاقب في قصة “تهريب أبطال دوستويفسكي من إدلب” التي تتحدث بشكل متسلسلٍ زمنياً عن هروب بطل القصة من إدلب إلى تركيا، ثم البدء في عملية تهريب مكتبته المنزلية إلى مكان إقامته الجديد، وذلك بالاتفاق مع شبكة من الـمُهرّبين الذين ينقلون الطعام والأدوية وأشياء أخرى بين مناطق سيطرة النظام والمعارضة، وكذلك عبر الحدود السورية التركية. وهكذا؛ وشهراً بعد آخر؛ يصل بطلٌ تلوَ الآخر من أبطال دوستويفسكي إلى راوي القصة، ويُلقي بظلالٍ جديدة على حياته.
أما الزمنُ الأسطوري فهو ما يجعل الفضاء السردي عند “أبي تاج” غيرَ محدود، ومنفتحاً دوماً على عوالم غرائبيّة مدهشة. ففي قصة “هجرة الأيتام” التي تتحدّث عن وقوع سلسلة من العمليات الإرهابية في بلدٍ متطوّر، ويكون مرتكبوها من الأجانب المهاجرين إلى هذا البلد، فتبدأ الشرطة في دراسة القضية لتكتشف أن مرتكبي الأعمال الإرهابية كانوا جميعاً نُزلاءَ في دار الأيتام في بلدهم المتخلّف قبل عقدين من الزمن، أي في الفترة ذاتها التي كان بلدهم فيها مُحتلّاً من قِبل تلك الدولة المتطوّرة ذاتها. وبعد اجتماع عالي المستوى لحلّ هذه المشكلة المتفاقمة، توصّلتْ تلك الدولة المتطوّرة إلى اختراع مركبة فضائية تسافر في الزمن نحو الوراء، فيقرّرون إرسالَ فريق على متن هذه المركبة إلى قبل عقدين من الزمن، لكي يضع كميّة من السُّم في خزّان مياه دار الأيتام.
قد نتّفق على أنّ الخلطة السحرية لقصص “أبي تاج” تقوم على الجميع بين الكوميديا السوداء من ناحية، والعبثيّة بأسئلتها الوجودية الكبرى من ناحية أخرى. فمِن حيث الكوميديا السوداء قد لا توجد قصّة بين القصص الـ 74 إلّا وتحمل مسحةً من السُّخرية رغمَ مرارة المأساة. وكمثال عليها قصة “أغاني أخينا الكبير” التي تتناول حالةً شاعتْ بين بعضٍ من أبناء الثورة، وهي تباهي بعض العوائل بشهدائها، ومزاودة بعضها على الأخرى بـ “ميزة” أنّ لديهم شهداء أكثر. ففي هذي القصة يموتُ الأخُ الكبير لسببٍ ما، لكنّ أخويه الأصغرين يريدان لهذا الموت أنْ يُحسّن من سُمعة العائلة أمام عوائل الحارة. ولهذا يُقرّران حملَ جثة الأخ الكبير والتنقُّل بها بين الأماكن التي تتعرّض للقصف الجوي يومياً (المشافي، المدارس، المخابز، سوق الخضار…)، لكي يدّعيا بعد ذلك أنّ أخاهما الكبير قد مات بالقصف، فيصير عندهم شهيدٌ في العائلة يفتخران به أمام أهل الحارة.
أما العبثيّة فمنتشرة في معظم القصص، إذ يعاني أبطالُها من عدم قدرتهم على تحقيق غاياتهم في ظلّ واقعٍ مأزوم، فتنتهي أحلامُهم بالفشل المحتوم. ويُلقي الموتُ -كموضوعٍ وجوديّ أثير- بظلاله على عددٍ من القصص، فتبدو شُخُوصها مسكونةً بالموت، سوداوية مُتشائمة، تعيش أزمةً واغتراباً دائمين، وكثيراً ما تُنهي حياتها بالانتحار. ليسَ في حالة الحرب فحسب، بل نجدُ الموتَ متغلغلاً في تفاصيل الحياة كافة، وكأنّ الموتَ والحياةَ شيءٌ واحد. ففي قصة “حافلة مليئة بالحقراء” تأخذُ الحياةُ صورة حافلة مسرعة، بينما يأخذُ الموتُ دورَ سائق الحافلة، أما الركّابُ فهُم الشخصُ ذاته في مراحل مختلفة من عمره، من الطفولة حتى الشيخوخة. وفي قصة “العجوز الذي يريد قتلي” لا يظهر الموتُ بوصفه نقيضاً للحياة، أو كشيءٍ سلبيّ ومُحزِن ومخيف، بل في صورة عجوز طيّبٍ تتلخَّصُ مهمَّته النبيلة في إنقاذ الأحياء من الحياة.
وفي حالة العزلة والاغتراب النفسي والجسدي، يظهر الحبُّ كمُخلِّص من العدم، لكنَّ محاولات أبطال القصص لإقامة علاقة حبّ سليمة تفشل، وذلك لأنّ أحد طرفي العلاقة (أو كليهما) يعاني من تشوّهات نفسيّة عميقة، إما بسبب الاستبداد أو الحرب أو الكبت الاجتماعي. وكعلاجٍ للألم النفسي الحادّ، يلجأ بعضهم إلى الجنس كمُتَنَفَّـس. وكمثالِ على التشوُّهات النفسيّة وفسادِ العلاقات الاجتماعية والعاطفية، خاصةً في ظرف اللُّجوء ومصاعبه الاقتصادية؛ نأخذ قصة “عورة الذاكرة المعطوبة” التي تتحدث عن مجموعة شُبّان هاربين من الحرب إلى بلدٍ مجاور؛ يقومون باستغلال فتاة هاربة من الحرب ذاتها، تعاني من أزمة نفسيّة حادة. وكأنّ مَنْ لم تقتلْهُ الحربُ أو الجوع… يقتُلُه جشعُ الإنسان عندما يتوحّش ويطلقُ العِنانَ لغرائزه.
أختمُ بالحديث عن النزعة الإنسانية العالمية (الكوزموبوليتية) التي تظهر في عدد من القصص، تلك النزعة التي تتجاوز الإطار المحلّي والإقليمي والهُويّاتي. ومعَ أنّ كثيراً من القصص مرتبطة بالحرب السورية وتبعاتها، إلا أنّ الخطاب العام للمجموعة هو خطابٌ موجَّهٌ من إنسانٍ عالمي إلى قرّاء عالميّين، أي بمعنى أنه غيرُ مرتبط بحدود مكانيّة أو زمانيّة معينة، بل تغلب عليه النزعة الإنسانية العامة. وكمثالٍ على ذلك قصة “تبادل الأسرار بين غرباء الحروب” التي تتحدّث عن لقاء شابّ سوريّ مع عجوز أرمنيّ في قرية حدودية تركية، وعن تطوُّر العلاقة بينهما رغم اختلاف العُمرين والبلدين والثقافة وظروف الحياة، ثم تتشعّبُ العلاقات لتصل إلى السيّدة التركية صاحبة الحانة التي كانا يلتقيان فيها. وهكذا تقدّم لنا القصّةُ علاقاتٍ إنسانية في طَورها البسيط والعفويّ والحيويّ، وتُقدّم البشرَ على فطرتهم، دونَ إعطاء أيّ اعتبارٍ للاختلافات الإثنية والثقافية.
*المصدر : تلفزيون سوريا