عبد الكريم بدرخان: “السيرة الرحبانية الفيروزية” كما رواها خطيب بدلة

0

“من حقّ الرحابنة وفيروز علينا، نحن الأدباء، أن يكتب كلٌّ منّا كتاباً عنهم، بطريقته وأسلوبه. بالنسبة إلي؛ هذا كتابي”. هكذا استهلَّ الكاتب خطيب بدلة كتابه الأخير “السيرة الرحبانية الفيروزية”، وهذا الكتاب الممتع السلِس يجمع ما بين تأريخ التجربة الرحبانية المدعَّم بآراء لأدباء وفنّانين ونقّاد، وتحليل جماليّات الإبداع الرحباني وأسراره في الشعر والموسيقا والمسرح.

الكتاب الصادر عن دار موزاييك (إسطنبول 2020)، وضعه المؤلّف بين عامي 2016 و2019. لكنّ فكرته تعود إلى قبل ذلك بأكثر من عشرة أعوام، إذ سبقَ للكاتب بدلة أنْ ألّفَ مسلسلاً إذاعياً بعنوان “أنا وفيروز والرحابنة” يقع في 30 حلقة، وقد قُدِّمَ إذاعياً بصوت الفنانة منى واصف. كما سبقَ له أن كتب سلسلة حلقات إذاعية بعنوان “أسرار الحداثة الفيروزية الرحبانية”، ذيعتْ منها 55 حلقة وبقيتْ 40 حلقة أخرى محفوظةً لديه في الأرشيف.

وبما أنّ للأغنية ثلاثة أركان هي النصّ واللحن والغناء؛ يرى الكاتب أن نجاح التجربة الرحبانية يعود إلى إبداعهم في كتابة الشِعر (وتحديداً الشعر الرومانسي) قبل إبداعهم في التلحين والغناء. وبينما قال عبد الوهاب إن الرحابنة قد “ثَوَّرُوا” الأغنية، يقول بدلة إنهم قد “شَعَّرُوا” الأغنية. وهكذا نجد أن الكتاب مخصصٌ لدراسة جماليّات القصيدة الرحبانية في الدرجة الأولى، أكثر من اهتمامه بموضوعات التلحين والتوزيع والأداء الصوتي، وذلك لأنّ مؤلّفه أديبٌ يتذوّق النصوص أدبياً.

ومن جماليات الأغنية الرحبانية -حسب الكاتب- تصويرُ المكان بشكلٍ مدهش يأخذ الألباب، وغالباً ما يكون المكان ريفياً رومانسياً وديعاً، من دون ميلٍ منهم إلى هجاء المدينة، إذ مدحَ الرحابنةُ بيروت وغنّوا لها كثيراً، بل إنهم لم يتركوا منطقة في لبنان إلّا وغنّوا لها. وهنالك فصلٌ عن “الشتي” الذي يحضر في أغانيهم بمعنى “فصل الشتاء” وبمعنى “المطر” حضوراً مميزاً، مثل أغنية “رجعت الشتوية” المخصصة للاحتفاء بعودة هذا الفصل، ومثل عديدٍ من القصائد التي كتبها جوزيف حرب وغنّتْـها فيروز. وليس بعيداً عن الرومانسية نجد فصلاً عن “أَنْسَنة الكائنات”، إذ نصادف في الأغاني الرحبانية العصفورَ الذي ينقلُ المراسيل ويرسمُ الخططَ للعشاق، والقمرَ الذي يغدو في مرتبة الجار، والبابَ الحزين على غياب أصحابه، والقلبَ الذي لهُ قلبٌ يتعب. وهنالك فصل مخصص لدراسة أسرار البلاغة في قصائد سعيد عقل التي غنّتها فيروز، وفصولٌ عمّا أضافه كلٌّ من الملحنين الكبار: فيلمون وهبي- زكي ناصيف- محمد عبد الوهاب- زياد الرحباني إلى التجربة الرحبانية الفيروزية، فلولا زياد لما استطاعت فيروز الاستمرار بالغناء حتى عام 2010 كما يرى الكاتب، بل لتوقّف إنتاجُها منذ منتصف الثمانينيات.

ثمة فصل مميّز حملَ عنوان “المرأة الرحبانية”، وفيه يقول الكاتب: “لو كانت المرأة العربية تحتلّ نصفَ المكانة التي تحتلّها المرأةُ في العالم الرحباني، لقلنا إن هذه الأمة ستمشي أخيراً في ركب الحضارة”. ويرى الكاتب أن حضور المرأة في العالم الرحباني متنوّع المظاهر؛ فأولاً السيّدة فيروز هي المغنية الرئيسية الناطقة باسم المشروع الرحباني، وهي الحامل لمجمل الرسائل الفنية والفكرية والسياسية والإنسانية التي أراد الرحابنة إيصالها إلى العالم. ومن حيث المواضيع؛ فأحياناً تكون الأغنية عن امرأة يجري الحديث عنها بضمير الغائب (يارا، مثلاً)، أو تكون خطاباً موجّهاً إلى رجلٍ لكنّ موضوعه هو امرأة (يا رايح ع كفر حالا)، أو امرأة تصارح الرجل مباشرةً بحبّها له (حبيتك تـ نسيت النوم)، أو تكون القصيدة خطاباً من رجُلٍ يقدّم المرأة قي صورةٍ سامية (قصيدة “خالقة” لـ بدوي لجبل). ويخلُص الكاتب إلى أنه “لا يوجد في سياق الأغنية الرحبانية وصفٌ دقيق لوجه المرأة أو لقوامها أو لشفتيها أو لجبينها… ولا لأيّ شيء له علاقة بمكوّنات شكلها الخارجي، وإذا وجد مثلُ هذا الوصف فإنه يأتي ضمن إطار العموميّات”. والسبب -في رأيه- هو “انحيازُ الرحابنة للجانب الإنساني في شخصية المرأة، وابتعادهم جداً عن التفكير المشرقي الحسّي الذي يعتبرُ أنها وجدتْ لأجل متعة الرجل”.

موضوعٌ آخرُ تناوله الكتابُ هو السرقات التي يُـتَّـهمُ الرحابنةُ بها، ومنها عدة مقالاتٍ ظهرت في السنوات الأخيرة تتحدث عن الشيخ النجفي علي محمد جواد بدر الدين، وتدعي أن قصيدتي “لقاء الأمس” و”عصفورة الشجن” هما من تأليفه، وأنّ الرحابنة لم يذكروا ذلك عند تسجيل هاتين الأغنيتين وإصدارهما. لكنّ الكاتب بدلة يدحضُ هذه الاتهامات، فيشير إلى أن الشيخ المذكور هو من مواليد 1949، بينما سُجّلتْ أغنية “لقاء الأمس” لأول مرة عام 1953، أي عندما كان في الرابعة من عمره. أما أغنية “عصفورة الشجن” فقد سُجّلت في الإذاعة الكويتية في منتصف الستينيات، أي عندما كان الشيخُ المذكور في الخامسة عشر من عمره. وأتساءل هنا: كيف يمكن أن تكون هاتان القصيدتان من تأليف الشيخ هذا؛ ولا يكون مشهوراً مثل نزار قباني وسعيد عقل وإبراهيم ناجي وأحمد رامي؟

ثمة مسألة حسّاسة يطرحُها الكتاب أيضاً، وهي “فكّ لغز الأخوين الرحباني”، أي مَن منهما الشاعر ومن الملحن؟ مَن يضع أفكار المسرحيات ومن يصُوغها فنياً؟! لا شكَّ أنّ كلاً من عاصي ومنصور شاعرٌ مبدع باللهجة المحكيّة وباللغة الفصحى، وكلٌّ منهما فنّان في التلحين والتوزيع؛ إلّا أنّ الكاتب يشيرُ -بحذر- إلى أنّ عاصي يميل برأيه إلى أنّ الأغنية لا تحتملُ كثيراً من الشعر، فكان يريدها سهلةً ممتنعة تصل إلى الجمهور الأوسع. بينما كان منصور مع نظرية الأغنية القائمة على الشِعر الخالص، لكي يعطيها ذلك ديمومةً أكبر. أما من حيث التلحين، فيشير الكاتبُ -بحذر- إلى أن عاصي كان ميالاً إلى الفنون الشعبية والفولكلور من مبدأ السهل الممتنع ذاته، بينما كان منصور ميالاً إلى التأليف الموسيقي الأوركسترالي، وهذا ما يتّضح في مسرحياته التي ألّفها منفرداً بعد رحيل عاصي.

يختتم بدلة كتابه بالحديث عن المسرح الرحباني، فيرى أنه مسرح غنائي ينشُد القضايا الكبرى، وفيه خلَقَ الأخوان رحباني وطناً مبتكراً، هو وطنُ الحرية والجمال والمحبّة والإيمان المتسامي. وللمفارقة فإنه الوطن ذاتُه الذي انتقده زياد فيما بعد، حين قال في برنامجه الإذاعي “العقل زينة”: “هذا الإنسان، عاصي الرحباني، برأيي وبتجرّد، مسؤول عن جريمة اختراع وطن وهمي في رأسنا، وطن ضخم قوي جبار، وكلُّه تعاضد بين أبنائه، وطن ما بينشرى فيه واحد، ووقت الفراغ ما بينهزم”.

*المصدر: تلفزيون سوريا

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here