تطرّقت رواية “الكعب الأبهر” (دار نوفل) للروائي السوري راهيم حساوي في مستهل سردها إلى ضرورة الكِتاب كروحٍ سامية ترادف الروح الأزلية. نحنُ في بحثٍ دائم عن نفس مطمئنّة، والطمأنينة تنتشر بمعرفة ماهية الطمأنينة، ألسْنَا نسلّم أنّ كلّ المعارف تحصل بالقراءة؟ لقد رأينا الراوي يعرضُ علينا فكرة الكِتاب وهو في يد جوليا البطلة، تحمله في كلّ دخلة أو خرجة في الفضاء الذّي ستراه بخيالك الواعي، إنّ مرافقة الكُتب ظاهرة حسنّة إذا نمَتْ علاقة محبّة آفاقها تسوية الإنسان؛ بترميم تصدّعاته الفكرية المعطِّلة للإنتاج، والنّص القرآني سبّاق لظواهر المعرفة المتداولة، وما الأفكار الآنيّة إلّا تفاسير جرى عليها القلم لتصلح في الأزمنة العابرة للحياة الدّنيا، إذْ نزلَ في محكم التنزيل “كمثل الحمار يحملُ أسفارًا”، فلا يُعقل أن يغيب العقل أثناء التلقّي، هنا يتبين نوره الذي يتغذّى بأنوار القراءة فما الدّاعي إذًا إلى حجبه ولو لساعة؟
وإذا لبستِ سيدتي الكعب الأبهر فستُدركين بعد قليل أنّكِ تتمشّين على صفحات رواية فلسفية، هذا ما يُمكنني قوله لكِ باختصار. سنرى المنفضة بطلة، عندما يستاء الأستاذ نديم من وجود منفضة واحدة على الطاولة، يُطفئ فيها أعقاب سجائره تارة، ويسحبها مدير النشر ليطفئ فيها تارة، إنّ تصرّفاتنا في الحياة لوحات مقروءة لمن ألقى النظر بحدّة، والحركة التلقائية لغة تُقرأ في صمت تام، لقد أدرك الراوي أنّ طلبَه لمنفضة خاصّة به توحي بالهشاشة، وحكم على نفسه بالقول “إنّ الّذي يضطر لطلب منفضة ثانية قد يتأفّف من ساعات العمل ويتقاعس لسببٍ سخيف”.
هل نحن أمام مُنمنَمات جمّلتِ الرواية المعاصرة بأدوات قد يستغني عنها نصّ ويحتاجها نصّ آخر، أم أنّ ضرورة صناعة الإبداع تلحُّ على بذل مجهود فكريّ لتفجير نصّ عميق يُخلّف قراءات لا تنتهي؟ هي صورة الواقع بالحرف، لكن طرائق التوظيف تحكم على جودة العمل من رداءته قبل أيّ حُكم آخر، فكلّما اشتغل فكر الكاتب أكثر كلّما اشتغل فكر القارئ والناقد أكثر.
ثمّ تحلّ الأسطورة كتراثٍ أدبيّ له خصوصياته وعوالمه الخرافية في سيّاق الكعب الأبهر، يبني عليها الراوي حكايته، جاعلًا من ريّا مالكة لسِرٍّ مكنّها من إحكام غلق باب المطبخ رغم تعطّل قفله منذ سنوات، تبدو القصّة كهندسة لنصّ معقّد، وعلى المتلقي اقتناص مضامينه ولم أشلائه المبعثرة في السّرد، ليمتحن كعبه في القراءة، بإطلاق خياله لعلّه يعرفُ ما وراء الباب من قوّة مانعة.
لقد ساعد المشهد السنيمائي ثعالب الرواية على ملاحظة مكامن الضّعف في نصوصهم، لأنّ الأضواء تعكس ظلّ الحركة، وتفضح الحركة الخاطئة والديكور الخطأ، فمن ثمّ يستدرك الكاتب أشياءً لم تمُر على ذاكرته أثناء البناء ليُعيد كتابتها بالشكل الأوضح في سروده اللاحقة. ومن جماليات النّص الآني أنّه مفتون بتقنية كتابة الرواية داخل الرواية، إذ يقدّم الكاتب على لسان راويه دراسة ضمّنَها سرده تُضيء للمتلقي بعض ما يريد أنْ يستقر عليه مضمون الكعب، يقول مثلًا “سأطلب منها إكمال تفاصيل الحادثة بشيء من الفضول، دون السماح لجوليا بمقاطعتها، وذلك بفضل إصغاء الآخرين ووضعهم في حالة من الترقب لبقيّة التفاصيل، وكأن الخدر أصاب رؤوس الجميع، بمن فيهم أنا”.
ومن الضروري جدًا أن نحاول تفكيك العنوان، ما العلاقة بين كُرة العجين التي كانت بين يدي الراوي والدائرة حول كعبه والأسطورة؟ ثمّة خيط رفيع بين ما دار في النّص وأحداث الحياة الراهنة، هنا مكمن الحبكة، علينا إذًا بدقّة القراءة لنستنسخ أفكارًا من خيالنا توازي أفكار الراوي في جوهرها، وتفتّق العجين حتّى نكون مشاركين في الإنتاج، إنّ الكعب سهل التعثر لمن لا يحسن المشي به، وهو رمز إلى العلو والرفاهية، لذلك وُظِّف بفطنة وعقلانية، ثمّ أن الّذي يلاحظ المِقص على الغلاف يدرك أنّ هناك عملية تقطيع عليه القيّام بها في مراحل القراءة، ليجمع من جديد – وحده – المتفرقات ممّا أتاح له الراوي وممّا أتاحت له الفِهامة، ولذلك نرى القول: “فقد راحت تتحدّث كما لو أنّها كانت تلقي كلماتها من مكان مظلم، لا أحد يعرف مصدره.. كنتُ مبهورًا بها وهي تفعل هذا”.
وبما أنّ الرواية مستودع لكلّ شيء، لم يفُتْ على مبدع الكعب أن ينوّه إلى أنّ بناءها يعتمد على كلّ شيء، ضجيج الكلمات السابحة في الرأس، أحاديث سائقي التاكسي، أحاديث النّاس في الطرقات… وهؤلاء الشخوص الذين ستعرفونهم يدفعون بالكِتاب إلى الكمال، اختارهم المبدع راهيم حسّاوي تماشيًّا مع فكرته التّي حرص على تمريرها بدون مشقّة، إذْ خلصتِ الرواية إلى حجم متوسط، يسيرة القراءة، كبيرة الأفكار، ولعلّ ذلك يعود إلى دراية كلّ من شارك في تقديم النّص بوظيفته دراية شاملة.
إنّ الذكاء العاطفي هبة ربانيّة، وهو هُنا مهارة امتاز بها صاحب الكعب في تعامله مع الفقرات المُرسَلات، فلم يكدْ يتخلّص من النص حتّى جمع أمتعة الشُخوص تمهيدًا لنهاية يرجو أن تحظى بالتوفيق والرضا، إذْ يودّع الراوي قائلًا: “مرّت الأيام وسافر الجميع، واحدًا تلو الآخر… وكأن اللبنانيين يُجيدون الرّحيل”.
فمن تلك الدائرة الصغيرة حول كعب نديم، توسّعت مداركه بمساعدة ريّا، واستطاع أن ينسج نصًّا عظيمًا يصعب عليه قراءته مرّة أخرى بنفس النّفس الأوّل، حتمًا سيضطر إلى الزيادة والنقصان، فكيف يمكننا- نحن معاشر القراء- أن نستوعب هذا الجمال من قراءة واحدة؟
*الترا صوت