عبد الرحمن مطر: سجينة طهران.. شجاعة الإنعتاق من الخوف

0

      تُعدُّ استعادة رواية  ” سجينة طهران ” للكاتبة الإيرانية / الكندية  ما رينا نعمت، ذات أهمية خاصة، اليوم، بالتزامن مع الانتفاضة الشعبية الإيرانية، ضد الاستبداد، وسلطته الدموية، بصورة دالّة على مبلغ الرعب الذي تنشره، في مواجهة الحقوق والحريات، ليتقدم الأدب، باعتباره شكلاً من اشكال النضال من اجل الحرية، خطوة الى الأمام، في إضاءة جوانب عديدة ومتنوعة في حياتنا، ومحرّضاً على فهمٍ أكثر اقتراباً من الحقائق، التي لاتغيب عن أذهان الناس.

 غير أن الكتابة، أو النص الادبي، بوصفه وثيقة تتصل بالروح والمشاعر، قد تشكل مدخلاً ملائماً، او عاملاً مساعداً، لمعرفة تفاصيل مسألة أو قضية عامة، عن قرب، كما في ” سجينة طهران ” الرواية التي يمكن النظرإليها كشهادة، ووثيقة، عن سياسات القمع الدامي والممنهج في إيران.

تتناول ” سجينة طهران ” تجربة الكاتبة الشخصية، في الاعتقال، في بدايات ما سمّي بالثورة الإسلامية الإيرانية، وذلك بسبب تبرّم شابة دون الثامنة عشرة، من استغلال المدارس لبثّ الدعاية لحكم الخميني. إنّ ممارسة  بطلة الرواية، لحقها الأساسي في التعبير، بشكل فطري، أدى الى اعتقالها، وإلى إخضاعها للاستجواب، والتعذيب الشديد، والمعاملة اللا إنسانية المُذلّة، في سجن إيفين الرهيب، ذي السمعة الدامية المرعبة، والذي يشهد اليوم زج افواج جديدة من الشابات والشبان المعتقلين، مثلما يشهد جرائم الإعدام بسبب حرية التعبير.

في الواقع، نادرة هي الأعمال الأدبية، التي تندرج في سياق أدب السجون، والتي تكون فيه المرأة هي الضحية، وهي الكاتبة، ولكن لدينا نماذج مهمة في الأدب العربي، مثل “الشرنقة لحسيبة عبدالرحمن، و”السجينة” لمليكة أوفقير. و”الحياة بين يديّ” لسكينة أوفقير، و ” مذكراتي في سجن النساء” لنوال السعداوي” .أما بالنسبة للأدب ” الإيراني” فليس ثمة أعمال تندرج في أدب السجون كتبتها المرأة السجينة، سوى عملين مهمين لكاتبتين إيرانيتين، كُتبا باللغة الإنجليزية، ثم تُرجما الى الفارسية، ولغات أخرى، هما رواية مارينا نعمت ” سجينة طهران “( 2006)، ورواية ” كاميليا – سيرة إيرانية ” (2007)  للكاتبة الإيرانية الاميركية كاميليا انتخابي فرد.

تبرز أهمية ” سجينة طهران ” في أنها نصّ سردي، يروي سيرة الإعتقال والسجن، بكل مرارتها وقسوتها، كما هي، وكأنها تُعاش الآن، مع كل قراءة لها، بلغة قريبة من القلب والروح، لا عويل فيها، ولا إطناب. تشعر وكأن التجربة ما تزال حيّة، لأن السرد ساحرٌ، ولأن أسبابها ماتزال قائمة.  ثمة كشف وتعرية، عبر النص الأدبي، لكل ما مرّ بها، وعايشته في عالمٍ مضطربٍ من الممارسات القمعية، الغير محدودة. وفي اعتقادي، أن أهمية الرواية في راهننا، تظل قائمة، وتتعزز، مع ما تتعرض فيه المرأة في إيران – وفي سواها من مناطق العالم، حيث الديكتاتوريات، وسورية مثال حيّ، يفرض نفسه أمامنا- إلى حملات تشوية، وملاحقة أمنية، واعتقال وتعذيب، مع ما يمكن أن تتعرض له أية سجينة، أو سجين على السواء، على يد السجان، من ارتكابات إجرامية، وانتهاك فظيع للآدمية، بما في ذلك الاغتصاب.

تروي مارينا نعمت، حكاية السجن التي طالت لعامين، فتاة في مقتبل الصبا، في طور التكوين التعليمي والمعرفي، تتسلح روحها، بموقف واضح وجلّي مما ابتُليت به حياة الإيرانيين، موقف رافض للإنصياع، وصلب في مواجهة كل ما يجري لها، ومن حولها في السجن. الصلابة التي تغذيها الشجاعة، حتى وإن كانت تأخذ بها الى منصة الإعدام. في مقابل ذلك، تفكك نعمت في روايتها، الجوانب القمعية، لثورة الملالي، وظلاميتها الدامية، في وقت مبكر، عبر النهج الذي سارت به في تكميم الأفواه، وفي ملاحقة المعارضين، وفي التصفيات التي يتعرض لها أبناء ثورة الخميني أنفسهم، بسبب الصراعات الداخلية على النفوذ والمصالح، وفي ظل الخوف المُشاع في كل مكان، مشيرة بذلك الى مصير ” عليّ ” سجّانُها وعاشقُها، ولاحقاً زوجها القسري،  الذي ينجح في وقف تنفيذ حكم الإعدام، بحق بطلة الرواية / الكاتبة.

ربما ينبغىي لنا أن نعرب عن امتناننا لـ ” عليّ ” الذي دفعه حبُه لإنقاذ مارينا نعمت. وتلك حكاية مهمة، بأن الحب يحقق المستحيل، في ظل حكمٍ يحرق ويقتل ويخرّب بلا هوادة وبلاحدود. وأن الحب الذي كان يسكن ضلوع ماريا، مُحلّقاً خارج أسوار إيفين الرهيب، هو أيضاً كان يمنحها قدرة غير محدودة على الصبروعلى المقاومة، من أجل البقاء. بقيت ذاكرتها متوهجة، على الرغم من ألم الحرمان، وأوجاع التعذيب، فكانت لحظات الخلود الى الذات في الزنزانة الإنفرادية، والمهجع الجماعي، زادها الذي يمنحها الأمل بالحياة: الحياة مجدداً في لحظة فارقة، على بعد خطوة واحدة من الإعدام.

عرفتُ مارينا نعمت عن قرب، ككاتبة ومثقفة، متحدثة ومناضلة من أجل الحقوق والحريات، وأستاذة في الكتابة الإبداعية. وكانت تنهل من تجربتها قوة كبيرة، تدفعها للعمل في مواجهة الإستبداد. وكان الأدب ولايزال بالنسبة لها، الأداة الأكثر فعاليّة للتأثير في عالم اليوم، وفي نقل وتبادل الأفكار. كنتُ كلما التقيتها، أتطلع الى قسمات وجهها والى عينيها اللامعتين، وأستعيد بعضاً مما روته عن تجربتها في سجن طهران الكبير، كنت أرى كثيراً من الألم الذي تخفيه ملامحها الناعمة والهادئة، هو ألم آلاف السجينات والسجناء، في معتقلات شرقنا المرعب. ليس في طهران فحسب، بل في سوريا وسواها.

 مارينا نعمت في سجينة طهران، هي سردية كل امرأة سجينة، والكتابة ليست كاشفة لمدى القهر فحسب، بل إنها تُحرر المرء من الخوف، وتوقظه من الارتماء في حضن الأحلام، فالواقع أشدّ مرارة مما نعتقد، وتغييره يتطلب المعرفة والشجاعة والإيمان بقضية الحرية، وهو ما تفصح عنه نعمت في روايتها التي تعدّ صرخة شجاعة ضد الاستبداد، وضد الصمت والسكوت حياله.

نُقلت ” سجينة طهران ” الى العربية، بثلاث طبعات! غير أنها نشرت في ثمان وعشرين بلداً حسب ” ويكيبيديا ” ولهذا مدلول ليس على القيمة الأدبية للنص الروائي، وحده، وإنما على ما قدمته الكاتبة من قضية حيوية مهمة، ينبغى ألا تغيب عن نضال أي مجتمع في مواجهة القمع والاستبداد. وقد حظيت الرواية باهتمام واسع، وحازت المؤلفة على جوائز عديدة، وتعدّ من أكثر الكتب مبيعاً في سنة صدورها.

لدينا، في الادب العربي، أعمال مهمة في أدب السجون، لكنها – بكل الأسف – لم تحظ بفرص الانتشار عربياً، ولم تأخذ طريقها الى الترجمة، كعمل أدبي، وكقضية،  أو موضوع يتناول السجن السياسي. والأدب، حتى في ظل هيمنة الصورة اليوم، ووسائل الاتصال الاجتماعي، يعدّ واحداً من أكثر وسائل التعبير، ووسائل المعرفة، تأثيراً وتحريضاً، ويساهم في تكوين الرأي العام حول قضية السجن والمعتقلين المغيبين، وما يتعرضون له من تعذيب، يؤدي بالكثير منهم الى الموت، دفاعا عن حرية التعبير بصورة خاصة.

في سنة الثورة السورية الأولى، اتذكر جيداً التأثير الذي تركته رواية مصطفى خليفة ” القوقعة ” لدى تيار واسع من الشباب، والذي فتح عينيه على فظاعات الديكتاتورية الأسدية، ونقل الكثير منهم من الى ضفة الثورة. الأدب ليس محرضا فحسب، وإنما رسالة، ومهمة، وضرورة في الحياة.

__________________

*مارينا نعمت – سجينة طهران / منشورات هنداوي – كلمات / القاهرة الطبعة الثالثة 2014.

*خاص بالموقع