في أواخر سبعينيات القرن الماضي بدأت مدينة سراقب في بناء سوق مركزي للخضار، وهي المدينة الزراعية التي كانت تصدر البطيخ الأحمر (الجبس) للمدن السورية الكبرى، وأحياناً إلى لبنان، في ذلك الوقت كان صديقنا عبد الرزاق باريش الملقب (أبو الشيخ) قد حصل على وظيفة حارس ليلي للمبنى قيد الإنشاء، كان ما يزال يصارع شهادة البكالوريا التي تستعصي عليه، وتتمنع تمنع عشيقته التي لا تدري عن حبه شيئاً، والتي تفصل بينها وبينه طبقة اجتماعية كاملة كنا نسميها الطبقة الوسطى، تلك الطبقة التي عمل نظام البعث على تدميرها من الداخل، فالعشيقة من طبقة الأغنياء جداً بينما هو من طبقة البروليتاريا الكادحة، حسب مصطلحات تلك الأيام، لذلك لم يكن من المستغرب أن يكون (أبو الشيخ) ضمن صفوف رابطة العمل، التي تحولت في ما بعد إلى حزب العمل الشيوعي، الحزب الذي قضى أفراده في آخر عهده في سجون الاستبداد الأسدي، وفي زمن الثورة تحول غالبية من تبقى منه إلى جوار الطاغية يبررون إجرامه.
في تلك الأثناء غادرنا صديقنا جميل حلوم إلى مدينة حلب، فقد قرر الحصول على شهادة البكالوريا من ثانوية (بني أمية الخاصة) وهناك كوّن ثلّة من الأصدقاء الجدد، لقد ذهب وتركنا نعيش صراعاتنا الحادة بين فكر الاتحاد الاشتراكي (فرع جمال الأتاسي) وفكر رابطة العمل الشيوعي، كنا مجموعة أصدقاء نحوم على تخوم العشرين عاماً، بعضنا أقل قليلاً وبعضنا أكثر قليلاً، يجمعنا جموح مدمر في الحب وفي السياسة وفي الأدب، وفي لعب الورق (البنكل) حيث يشتري الخاسرون كيلو أو أكثر من الموز لنتخلص بواسطته من مرارة أفواهنا، التي يخلفها التبغ والشاي، نستمتع بمضغ الموز على أنغام إحدى أغنيات أم كلثوم، عبر مذياع أصلي يفاخر به أبو الشيخ الذي غدا خبيراً بموجاته المحملة وجداً وعشقاً.
كنا ننتظر عودة صديقنا جميل حلوم كل خميس من حلب، ليحدثنا عن اكتشافاته الخاصة في مدينة لم نعرف عنها إلا القليل. وكان يحدثنا عن أصدقائه الجدد ولأننا نحب الأصدقاء كثيراً، ونتغنى بالعبارة الخالدة (رب أخ لك لم تلده أمك) فقد قررنا أن نقيم وليمة تعارف، ندعو فيها أصدقاءه الجدد، كانت فكرة رائعة تحمس لها أبو الشيخ وقرر أن تكون في سوق الهال، مكان عمله في البناء الذي لم ينته بعد، حيث روائح الإسمنت تختلط بروائح الحجر والفحم المتقد في (المنقل) فصديقنا أبو الشيخ يعشق الشاي المعدّ على الفحم، وهذا العشق ليس من باب الترف، وإنما لعدم وجود البديل.
حضور الأصدقاء الجدد من حلب خلق عندي بعض المفاجآت، فلأول مرة في حياتي ـ وكنت لم أبلغ العشرين بعد ـ أرى آلة (البزق) التي ارتبطت في مخيلتي فقط بالعازف الشهر أمير البزق (محمد عبد الكريم)، والمفاجأة الثانية أن البزق كان كهربائياً، وكنت في حينها لا أعرف من الآلات الوترية الكهربائية غير (الغيتار) كان البزق مدهشاً بلونه العنابي اللامع أما المفاجأة الأهم فكانت في الأصدقاء الجدد، إذ لأول مرة أتعرف إلى أشخاص أكراد (محمد هورو وصديقه الأنيق بطوله وهندامه محمود قول آغاسي وعازف البزق الذي نسيت اسمه للأسف) ولأول مرة في حياتي القصيرة أسمع بقضية كردية، ضربت في حينها الكثير من البدهيات والمسلمات التي تعلمتها في المدارس، وأيقنت يومها أن مناهج الدراسة تنتج في الغالب نسخاً كربونية لا أكثر، تنتج نوعاً من الرتل المطيع المتكيف مع مجتمع (الحيط الحيط ويا رب الستر)، في حين إن كنت تريد أن تكون إنساناً حقيقياً فعليك أن تكتب صفحتك بخط يدك، ولتكن أنت أنت وليس ما يراد لك أن تكون.
في تلك الوليمة اجتمع العود العربي مع البزق الكردي، واجتمع الناصري مع الشيوعي مع اللامنتمي مع المنتمي غصباً لبعث ننفر منه جميعاً. اجتمع شارب الكأس مع من يعتبره محرماً. في تلك الوليمة عزف أسعد شلاش وغنينا معه الموليا السراقبية، وغرفة صغير وحنونة. كان ذلك قبل أن يعتقله الأمن ويغيبه لسنوات عديدة في المعتقل، ليهاجر قسرياً في ما بعد إلى البلاد الاسكندنافية. في تلك الوليمة عزف أخوه الجميل خالد شلاش وغنينا معه فريد الأطرش وميجنا وديع الصافي. كان ذلك قبل أن يدمر طيران الأسد بيته ويغتال أسرته بصواريخ الحقد. في تلك الليلة عزف الكردي أغان لشيفان، ولم نستطع أن نغني معه، فقد وقفت اللغة سداً منيعاً في وجهنا. كان ذلك قبل زمن طويل من دخول «بي كي كي» إلى سوريا ليساند بشار الأسد في زرع الشقاق بين العربي والكردي.
في تلك الوليمة كان أسعد سماق ما يزال ينشد على مسامعنا قصيدته «أنا سيد الحزن وحدي» كأنما كانت نبوءة شاعر فقد قالها قبل أن يتزوج وينجب زهرة شباب سراقب (مهيار) الذي اعتقل بداية الثورة وما يزال حتى اللحظة مغيباً في سجون الطاغية.
في تلك الليلة كان عبد السلام حلوم ما يزال يحبو في دروب الشعر، ويردد الأغاني كمتصوف. كان ذلك قبل زمن طويل من هجرته القسرية، بعد أن دمر طيران الأسد بيته في بستان القصر. في تلك الليلة كان محمد جعبور يتألق في ضبط الإيقاع على طبلته الخاصة غير مبال بالنغم عربياً كان أم كردياً.
امتدت بنا تلك الوليمة حتى الصباح فذهب كل منا إلى مأواه ليستيقظ في ما بعد على مدينة تتحدث عن فتية سهروا سهرة ماجنة، كان ذلك قبل أن أقرأ قصة (العهدة) في المركز الثقافي في سراقب، في يوم خميس، لأتحول أنا وقصتي في اليوم التالي إلى مادة دسمة في أفواه خطباء الجمعة. ولأكتشف منذ ذلك الوقت أن مدينة سراقب التي تحتضن بذور التنوير في شبابها تحتضن أيضاً بذور التعصب والغيرة العمياء على مشايخ الدين.
لم تغب عن بالي تلك السهرة طوال الأربعين سنة الماضية، لذلك وعندما رفع أبناء سراقب في إحدى مظاهراتهم لوحتهم الشهيرة «أنا عربي، أنا كردي، أنا سني، أنا مسيحي، أنا درزي، أنا علوي، أنا إسماعيلي..» شعرت يومها بالفخر وقلت أنا سوري بحق. أنا ابن هذا الوطن، ولهذا عندما قال الشاعر الطائفي أدونيس إن المظاهرات خرجت من الجوامع بصقت عليه وقلت له: بل خرجت من سوق الهال.
أتعرف سوق الهال يا أدونيس؟ إسأل عنه أبو الشيخ وأسعد، وخالد، وجميل، ومحمد هورو. سوق الهال الذي كان شاهداً على أول معركة بين جيشك الطائفي المدجج بالسلاح وأحرار سوريا في سراقب المدججين بالورود والأغاني، سوق الهال الذي دمره طيران الأسد قبل أيام لأن الأسد ونظامه أعداء الحرية والكرامة. وأنا على يقين أن أبناء سراقب سيعيدون بناء سوق الهال وسيصدرون منه مع (الجبس) بذور القمح والحرية.
المصدر: القدس العربي