عبد الرحمن القلق: كان بوسعي أن أحدّثهم قليلًا عن الموت

0

كان بوسعي أن أصير قاتلًا، لو أحببتُ ابنة حيّنا قليلًا أكثر، لمّا مزّق الجنود لحمها أمامي،

لكني أشحتُ بوجهي عنها صوب الشمال

إذ قالوا لنا عن دانتي إن الجنة -أوروبا- آتية بعد الجحيم.

كان بوسعي وأنا أراقب نَدْفَ الثلج هنا

أن أتخيله رقصةً مَجَريّةً أو تحية غائبٍ من بعيد،

لكني تذكرت الفضةَ البيضاءَ عند الحدود

تحصدُ أنفاس الأطفال، دون أن تحنّ إلى لون الحليب.

كان بوسعي أن أحدّثهم عن أصابع الموت

حين اقتيدتْ الأصابعُ -التي خَمَشَتْ جلدَ الماء بأظفارها- إلى غرف التحقيق

وأجبرتها الهراوات أن تبصم على دبلن.

كان بوسعي أن أحدّثهم عن عيون الموت

حين وجّهوا كاميراتهم إليّ وسألوني إن كنتُ ممتنّنًا لكلّ هذا!

لكني رحتُ أعدّ لهم أسماءَ الناجين وأعدادَ الذين قطعوا صراط “الاندماج” كي يبدؤوا مهنة العيش

ورحتُ أتعلّم الألمانية وأشتري بطاقاتٍ لدخولِ مسرحياتِ فالك ريختر

لأشارك الأوروبيين حياتهم

وأُخاصِرَ خوفَهم في مقاعد المسارح وهم يشاهدون بلادهم -فوق الخشبة- خارجةً من ثوبها المخمليّ الأزرق

إذ تفتحُ في الهواء عيونًا أشدّ حيرةً من يديها الرّاجفتين

– أوروبا –

هزةٌ صغيرةٌ، وتعلوا ألغامٌ نستها مُذكّرات مستعمرٍ متقاعد

أكُفًّا مِن ترابٍ شعوبٍ

تحومُ كالحمام حول قُببِ الحداثة

إلى أن ترفسها بحذائها الرّياضي الأبيض

وتطحنها بأسنانها النّاصعة.

هزّةٌ صغيرةٌ، وتتساقط مدنٌ عُلّقت مشانقها في السّماء

هزةٌ صغيرةٌ، ويسِحُّ الثلجُ الملبّد بالطّين للأعلى

فتتبدّى للناظرين خطى الغرباء

تطفوا في الهواء، وتُعلَّقُ من حولها الكلمات:

هذا الكلام ماءٌ

أما الدماءُ… فذاكرةُ الذين انتظروا بقدر الأبدية

عند باب محكمة كوبلنز

وعند الحدود

وفي طوابير الطعام

وفي طوابير لمّ الشّمل

وفي طوابير المحتضرين في بلادهم حتى يغيبوا

وفي طوابير الغائبين عن بلادهم حتى تحتضر.

هذا الكلام ماءٌ

أما الدماءُ… فذاكرةُ الذين انتظروا بقدر الأبدية

غرقى

في فم الله المُزبّد

ملتفين حول صورته

يجأرون

بفمٍ مزمومٍ

راجين

أن يدنو يومًا إليهم.

*ألترا صوت