عبد الرحمن الجندي: ما زال السجن مكتظاً بجيل “سبايس تون”

0

كنت أجلس متربعاً على حافة فرشتي وسط النائمين عند الثانية فجراً، أتأمل ظلام الزنزانة وشعاع الضوء الخافت المنسلّ من قضبان شباكها الصغير؛ وهج برتقالي يثير الدفء والوحشة على حد سواء. أتمايل يُمنةً ويساراً وأهزّ رأسي و أغنّي: “في لحظة الحزن أبكي، أحتاج صحبي لأحكي. قد ساءت الأمور، والأرض لا تدور”. أعانق الوحدة والحزن والفقد والألم، أفتح ذراعيّ وأحتضنهم، وأكمل التمايل، وأكرر: “قد ساءت الأمور والأرض لا تدور”. ثم يشتد غنائي الخافت “لا بد من ريحٍ تبدد الغيوم… والشمس في إشراقها ستغسل الهموم”. أهتز في شجن عجيب مازجاً بين الابتسام والحنين والدموع واليأس والأمل، في العام الخامس لسجني، بلا نهاية تلوح في الأفق.أسترجع هذا المشهد الآن من بيتي. أتنقل بين أغاني “سبايس تون” المختلفة شاعراً بالشجن العنيف نفسه، وأفكر في مهند إيهاب. سأدور دورة كاملة يغلقها مهند في النهاية.

 كتبت منذ أيام منشوراً على صفحتي لشباب جيلنا أسألهم فيه عما إذا كنا نتشارك الشعور الناجم عن سماع أغاني “سبايس تون”، نحن شباب المستقبل. وكان فيضان المشاعر والشجن في التعليقات مبهراً ودافئاً. وانفجر تفاعلهم بردّ رشا رزق بنفسها على المنشور.

ما الذي يسبب نوبة النوستالجيا الحزينة هذه عند أبناء جيل التسعينيات العربي من أغاني “سبايس تون”؟ لماذا ما زلنا نتابع في أواخر عشرينياتنا وأوائل ثلاثينياتنا رشا رزق، ونترك صوتها الملائكي يربت على قلوبنا ويعتصرها حزناً في الوقت نفسه، من دون أن نشعر أنه فعل طفولي ساذج؟ ما تفسير متلازمة “سبايس تون” تلك؟ ما الذي جعلني مهووساً بترديد أغانيها بهذا الشكل طوال سنين السجن، بل وكتابتها على الجدران أينما حللت؟ وكيف أصبحت معانيها فجأةً أقوى وأوضح بهذه الطريقة؟

ظللت أدور وأعود إلى فكرة البراءة. بعد كل القبح الإنساني الذي عرفته، والأذى الروحي الذي حلّ بي، والتجارب الصادمة التي هزت ثقتي بكل ما هو خيِّر وجميل، أضحى سماع كلمات بهذه البراءة شيئاً أقرب إلى السحر. هذا التضاد الصارخ بين ذكريات الألحان وصوت الكلمات على لساني، وبين محيطي القاتم، كان ضرباً من الإعجاز.

أتلمس شيئاً قارب أن يتلاشى في روحي، فيتشبث بها كلوح من الخشب في عاصفة بحرية هوجاء، فتصبح أمله الباقي الذي إن أفلتته يموت، ثم لا يفلت. أتأمل من حولي من أبناء جيلي، فأشعر أن حالتي قابلة للإسقاط عليهم؛ في عالم مظلم وأمواج تيه كثيرة، ووجود لا يفهمنا ولا نفهمه، نجد أنفسنا في أحذية الكبار المسؤولين، نُدهس في مطحنة الدنيا، ونُصدم يوماً بعد يوم بظلامها وقسوتها. فنهرع إلى موسيقى طفولتنا، نتلمس قبساً من براءة، وشعاعاً من أمل؛ ننصت إلى صوت رشا الحاني يقول لنا:

” لا تبالي فستُشفى الجراح

وظلام الليل لن يطول

وانصتي ففي كل صباح

صوت في الأعماق يقول

كلما… زارنا… طيف حب لا ينام

هزّنا… زادنا… أملاً لا يخشى الأيام”

أليس مفهوماً توقنا بين الضربات الموجعة التي لا تنتهي، إلى عهد الأصدقاء: “تهدينا الحياة أضواء في آخر النفق، تدعونا كي ننسى ألماً عشناه، نستسلم لكن لا ما دمنا أحياء نرزق، ما دام الأمل طريقاً فسنحياه”؟ أرتاح إلى نظريتي هذه عن البراءة والأمل. فماذا إذاً عن الألم؟ كانت أغاني “سبايس تون” وحلقاتها محملة بقدر رهيب من الفلسفة والبؤس الموجعين أيضاً، وبصراعات كبرى بين الخير والشر، والجمال والقبح. تدمي قلوبنا بكلمات الفقد والأسى على الموتى والراحلين في “أنا وأخي”، ومسلسلات مماثلة. تُعلمنا دروساً في الفراق وألمه في غير موضع، فلمَ نُعذب أنفسنا الآن بالعودة إلى تقفّي أثر هذا الأسى، وتعريض أنفسنا له عن قصد؟

كأي شاب من شباب جيلنا، أمضي ساعاتٍ طوالاً متفكراً ومكوناً نظرياتي الشخصية عن كل ما يستغلق عليّ فهمه في الحياة. ساعدتني في ذلك سنون وحشة السجن وعزلته، التي أمضيت قسطاً وافراً من ساعاتها أتأمل ألغاز الوجود. لطالما كنت أتعجب: لمَ يجد الإنسان الجمال في الألم؟ لماذا تلمسنا الموسيقى الحزينة، وتجتاحنا القشعريرة في مشاهد الفقد، ونقف مشدوهين أمام الفن البائس المؤلم؟ لماذا تغير التراجيديا حيواتنا، ولا تفعل الكوميديا؟

يلفت انتباهي شعور الإنسان الدائم بالغربة وعدم الانتماء الذي يتجلى في أعمالنا الفنية على مدار التاريخ. أعمال تسعى جاهدةً إلى تجسيد شعور التيه والاضطراب والنقصان هذا، وتحاول عزفه لحناً أو ضربه على لوحة بفرشاة أو صياغته في كلمات نص أدبي. وكلما استزدت من التأمل، ازداد يقيني؛ لسنا من هنا.

نظريتي الصغيرة، صوفية الطابع، تمدُّني ببعض السلام عندما تفترض أن للإنسان روحاً، وأن الروح قبس من عند الإله، وليست من هذه الدنيا. أرواحنا غريبة عن هذا العالم، تائهة تهفو إلى الأُنس ببعضها، ويملؤها البرد كلما أدركت غربتها. ولكننا نشتّتها بضوضاء الحياة. ندخل في معتركاتها، وندفن أنفسنا في الصخب.

أرى أن أرواحنا الغريبة المتألمة ترى انعكاسها في الفن الحزين، ترى غربتها ووجعها متجسدَين. أغريب إذاً أن ننكفئ على أغاني “سبايس تون” هاربين من حيواتنا لدقائق، نتشرب هذا المزيج من البراءة التي نتوق إليها، والأمل الذي خاصمنا؟

أعود الآن إلى المربع الأول، وأغلق الدائرة بمهند. في العام 2015، شُخّص مرض مهند إيهاب بمرض سرطان الدم. كان مهند في وضعيتي نفسها، معتقلاً في أحد السجون المصرية، عندما سمحوا أخيراً لوالده بأخذ عينة من دمه لتحليلها بعد اشتداد الأعراض عليه، وظهرت نتيجة التحليل صادمةً. تمكّن السرطان من دمه بنسبة 93%. كان الأوان قد فات عندما أُخلي سبيله في جلسة التجديد.

سافر ليُعالج في أمريكا ويعاني الأمرّين في رحلة مفجعة أكثر من سابقتها، إلى أن ساءت حالته من العلاجات التجريبية، ودنا منه الموت أكثر، والبلد كله يراقب المأساة متوجعاً. فماذا طلب مهند؟ ما كانت أمنية ابن جيل التسعينيات البائس، ابن الثورة والهزائم والوعي والألم؟ طلب أن يسمع أغنية القناص من رشا رزق.

أرفع يدي وجلاً، فكل الخطوط ترتبط؛ ظلم الاعتقال وبشاعة السرطان وقسوة الغربة والتيه والحنين إلى البراءة والفتى المراهق الغارق في كل ذلك، امتزجوا جميعاً ليصنعوا توقاً إلى شيء سحري: أغنية الطفولة المفضلة، وصوت رشا رزق الحريري.

أبكي وأبكي وأبكي وأنا أسمع الآن، في العام 2021، إهداءها إليه وقتها، وهي تشجعه وتقويه، ثم تهديه بصوتها أغنية القناص خصيصاً: من هو الصامد المغامر في وجه السيل يا مهند؟ بعد يومين، مات مهند.

أبكي، فأنا في حضرة معجزة إنسانية. وفي خضمّ كل هذا الوجع والظلام والقسوة والعبث، كما في كل مرة، لا أملك إلا أن ألمس الجمال؛ الجمال الحاضر قدر بؤسه. عندما كان يشتد عليّ الهم في السجن، كنت أبكي. البكاء نوع غريب من الثورة. كنت أحب أن أغنّي وقتها:

“لا تبكِ يا صغيري، لا بل انظر نحو السماء، من قلبك الحريري لا تقطع الرجاء، إن الأمل جهد عمل، و الجهد لا يضيع، الأمل جهد عمل”. وعندما أتذكر أمي ويهزني الشوق إليها، أغنّي أغنية أنا وأخي:

“شوق يدفعني لأراها… أمي ذكرى لا أنساها… طيف أنقى… من زبد الأيام أبقى”. أجلس بين أسرتي خلال الزيارة، فتغنّي لي أختي في كل مرة بصوتها العذب في الدقائق الخمس الأخيرة قبل الفراق القسري:

“لا أزال صغير… أنتمي للحنان…

أغفو حين أطير… على جناح الأمان…

أصوات الأحباب… تحطم الجدران… تختار الفؤاد… ملجأً”.

أبكى وتبكي. أسير جارّاً خُطاي إلى زنزانتي، أكتب السطور على حائطي بقلم مهرّب، وأسهر وحيداً حتى الفجر، كما في كل ليلة، وأهتز وأردد: “أصوات الأحباب… تحطم الجدران… تختار الفؤاد… ملجأً”

وأعيش على هذا الأمل، أنتظر أن تتحطم الجدران، وأغنّي.

مات مهند، وما زال السجن مكتظاً بأبناء جيلنا في البلاد العربية كلها، بينما يهيم أقرانهم في الخارج تائهين في الحياة، مغتربين. تفرّقنا الأفكار والمواقف والجغرافية، وتجمعنا أغاني طفولتنا. فننتظر، ونغنّي.

(رصيف 22)