‘اليوم العالمي للغة العربية ‘أصبح منذ عام 2013 موعداً سنوياً تحتفل به منظمة اليونيسكو الدولية في الثامن عشر من كانون الأول (ديسمبر) من كل سنة، وباتت العربية هي اللغة السادسة التي يُحتفى بها عالمياً بعد: الفرنسية والإنجليزية والروسية والإسبانية والصينية. ودرجت المندوبية السعودية لدى المنظمة اليونيسكو في باريس على تنظيم الاحتفال بهذا الحدث، وهو احتفال شامل تشارك فيه دول عربية تنتمي إلى المنظمة. وكعادتها كل سنة، دعت المندوبية خبراء في حقل اللغة وباحثين ومثقفين وإعلاميين عرباً للمساهمة في الندوات وجلسات الحوار المفتوح حول واقع اللغة العربية ومستقبلها، ,ترسيخاً للخطة التي رسمها منذ عام 2013 مشروع “أرابيا” (الهيئة الاستشارية للخطة الدولية لتنمية الثقافة العربية). واختارت المندوبية هذه السنة عنواناً شاملاً للاحتفال هو “اللغة العربية والذكاء الاصطناعي”. لم يبق هذا الاحتفال وقفاً على منظمة اليونسكو، بل باتت الدول العربية تحتفل به كل على طريقتها، عطفاً على الهيئات العربية الموزعة في بلدان الاغتراب، ومنها معهد العالم العربي في باريس. ولعل الاحتفال بهذا اليوم، رسمياً وشعبياً، بات يستبق الموعد ذاته، ممهداً له بلقاءات وندوات ونشاطات متنوعة. وفي هذا السياق، لا يبدو الاحتفال بهذا اليوم مجرد احتفال وطني عابر أو فولكلوري، بل هو يهدف إلى مقاربة المشكلات التي تعانيها اللغة العربية، والتي تزداد تفاقماً في عصر العولمة الذي يوصف بـ “عصر اللغة الإنجليزية -الأميركية، وعصر الإنترنت والفيسبوك وسواهما”.
مناسبة سنوية
أصبح هذا اليوم مناسبة سنوية وتقليداً يستعيد خلاله المثقفون والكتاب وعلماء اللغة والإعلاميون مشكلات اللغة العربية التي تتفاقم عاماً تلو عام، على مستويات عدة، تربوياً وعلمياً وإعلامياً وشبابياً. ويكفي أن نتذكر أن إقبال الأجيال الجديدة على اعتماد اللغة العربية يشهد تراجعاً في دول عدة، لا سيما إزاء اجتياح اللغة الإنجليزية الأوساط الشابة، وأثارت هذه الظاهرة السلبية، ولا تزال، تثير سجالاً لم ينته حتى اليوم. لماذا لا تُقبِل الأجيال العربية الجديدة على إتقان لغتها الأم؟ هذا السؤال يُطرح في كل الدول العربية التي تتشابه أجيالها الشابة في همومها ومشكلاتها.
كانت اللغة العربية في حاجة فعلاً إلى مثل هذا اليوم لتخرج من حصارها الأهلي وتطل على العالم من خارج “الأجندة” الاستشراقية والسياسية والتجارية… يوم عالمي للغة، هي من أعرق اللغات التي ما برحت تتوقد حياة ما دامت لغة الملايين من العرب والمسلمين الذين يُقبلون عليها يكتبون بها ويقرأون ويصلون. إنها لغة 22 دولة من الدول الأعضاء في اليونيسكو، وينطق بها أكثر من 422 مليون إنسان في العالم العربي ويستخدمها أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين في العالم.
هذا اليوم لا يزال فرصة سانحة ليعاود العرب النظر في واقعهم اللغوي ويتصدوا للأزمة التي تعانيها لغة الضاد، لا سيما في زمن الانفتاح الثقافي والغزو اللغوي، سواء من خلال وسائل التواصل العالمي أو عبر القنوات الفضائية… ولئن بدا واضحاً قبل أعوام، اهتمام المراكز والمؤسسات الثقافية العربية بهذه اللغة التي تحتل حيزاً واسعاً بين لغات شعوب الأرض، فما أنجز حتى الآن لم يؤتِ ثماره المنتظرة. ندوات ولقاءات ومؤتمرات لا تحصى تنتهي عادة بتوصيات ترفع ثم توضع في الأدراج. وإن لم تخل هذه التوصيات والبيانات من أفكار مهمة واقتراحات و “حلول” إزاء معاناة اللغة العربية، فهي في الغالب تميل إلى “التنظير” ونادرا ما تدخل حيز المبادرة الحية والعملية”.
وغالباً ما تسعى اللقاءات والندوات التي دارت حول اللغة العربية إلى مديح هذه اللغة بصفتها هوية الأمة وذاكرتها الحضارية ورمز خلودها، وسواها من المقولات التي باتت جاهزة ومستهلكة. هذا المديح لا بد منه دوماً وقد سمعه المواطنون العرب حتى في “القمم” العربية المتوالية. لكنّ مثل هذا الكلام لا أثر له في مجرى ما يحصل ويتفاقم في “عقر” اللغة العربية. فالأزمة في محل والمديح في محل آخر. والشعارات تظل شعارات مهما كبرت وعظمت. وفي كل اللقاءات والندوات التي أقيمت وتقام، في شأن العربية، كانت تحضر بشدة، مجامع اللغة العربية، التي نصّبت نفسها حارسة للغة الضاد وقيّمة عليها ومولجة بـ “تدبير” شؤونها. هذه المجامع تحديداً، هي التي تحتاج إلى حركة تحديث وتطوير وعصرنة، بعدما هجعت في أقبية التقليد والمحافظة و”الأصالة”، متهيبة الانفتاح على ثورات العصر التكنولوجية والرقمية… ولعل أول خطوة توصف بـ”العملية”، تتمثل في معاودة النظر في هذه المجامع التقليدية، وفي بنيتها الثقافية ومناهجها ونظرياتها. لماذا لا تصبح هذه المجامع العربية بمثابة أكاديميات كما حصل في الغرب، تنفتح على الحداثة والعصر وتفتح أبوابها أمام اللغويين الجدد الذين رافقوا الثورات اللغوية الحديثة التي شهدها العالم؟ هذه المجامع هي القادرة حقاً، إن هي حدّثت نفسها، على “صيانة” اللغة والحفاظ عليها وتصفيتها من الشوائب الدخيلة وحمايتها من ‘الغزو’ الأجنبي. والبادرة الأولى التي يجب أن تقوم بها هذه المجامع هي تطوير قواعد اللغة العربية وتحديثها وتبسيطها، صرفاً ونحواً، كي تقربها من الأجيال الجديدة وتصالحها معها من دون المس بجوهرها وماهيتها. يعيش “المجمعيون” في ما يشبه البرج العاجي، متجاهلين ما تعانيه اللغة العربية في أوساط الشباب، وحيال الزحف اللغوي الأجنبي وصعود ثقافة الإنترنت من تحديات وأزمات. إنها الخطوة الأولى التي ينبغي أن تقوم المجامع بها، بغية تحديث القواعد العربية وجعلها ‘ابنة’ العصر وسليلة الثورات اللغوية التي تهيمن الآن على وسائل التواصل والاتصال. هكذا ترتفع، حيناً تلو آخر، أصوات عربية تبدو كأنها تقرع جرس الإنذار إزاء لغة الضاد، داعية إلى جعلها لغة الحياة وتحريرها من أسر المعاجم وكسر جمودها… وترتفع أصوات أخرى أيضاً، داعية إلى إنقاذ اللغة العربية من الأخطاء الفادحة التي يرتكبها كثر من أهل هذه اللغة في الحياة اليومية.
عبء اللغة
أصبحت القواعد التقليدية عبئاً على التلامذة كما على الأساتذة أنفسهم، أصبحت أيضاً عبئاً على الكتاب والصحافيين. الأخطاء اللغوية تملأ صحفنا وكتبنا وواجهات إعلاناتنا… والأغرب أن تصل الأخطاء إلى بيانات المؤتمرات التي تُعنى باللغة. وكم من كاتب بات يتمنى أن يكتب بالعامية ليتخلص من أسر القواعد العربية. أما الذين يؤثرون اللغات الأجنبية على العربية، فهم لا يحصون، وفي معظم الدول العربية.
إلاّ أنّ تطوير اللغة أو تحديثها لا يعني البتة التخلي عن قواعدها. فما من لغة بلا قواعد، حتى اللغة العامية ذاتها، تملك قواعدها المضمرة. لكن المطلوب تحديث هذه القواعد لتتلاءم مع العصر ومع الأجيال الشابة خصوصاً. فمن الملاحظ أن الاستخدام اليومي للغة العربية يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، ولا يبدو أن في الأفق حلاً لهذه المشكلة المستعصية. فقدت اللغة رهبتها وباتت عرضة للانتهاك المفضوح في معظم المرافق العامة، في الإذاعة كما على الشاشات الصغيرة، في الندوات والمؤتمرات، ناهيك عن الأخطاء الفادحة التي تُرتكب في الخطب السياسية وغير السياسية التي تبثها الفضائيات.
تحديات صارمة
تواجه العربية اليوم تحديات صارمة أصبحت معروفة ومطروحة دوماً للنقاش، لكنها لم تلقَ بعد حلولاً ناجزة. وفي مقدم هذه التحديات، تقاعس العربية في مواكبة الثورات الحداثية وما بعد الحداثية التي يشهدها العالم المعاصر في حقول المعلوماتية والتكنولوجيا التي فرضت معجماً جديداً لم تتمكن العربية من استيعابه أو ‘تعريبه’. وهذا ما أوجب حالاً من الاستلاب اللغوي المتجلي في غزو كثير من المفردات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، “قلب” العربية. لم يتمكن العلماء العرب والمترجمون من إيجاد رديف للمعجم العلمي يمكن استخدامه عربياً. والأبحاث العلمية في هذا القبيل ضعيفة أصلاً وغير متكافئة، خصوصاً في علم اللسانيات وتقنيات التواصل وسواها. وغزت اللغات الأجنبية الحياة العربية اليومية أيضاً من خلال الإنترنت ومواقع المعلومات، وكذلك عبر البرامج الإلكترونية والشاشات والأفلام… وقد يشعر المواطن العربي بغربة إذا لم يكن يجيد الإنجليزية في حد أدنى، فالمصطلحات التي يواجهها على الكومبيوتر تفترض إلماماً بالإنجليزية. وهذه المشكلة واجهتها الدول التي ليست أنغلوفونية. وأسهم هذا الغزو في إضعاف اللغة العربية في صفوف الأجيال الجديدة التي أولت الإنجليزية اهتماماً، مهملة لغتها الأم أصولاً وقواعد.
اللغة العربية هي لغتنا الأم ولعل أجمل صفة أُطلقت على اللغة في العالم هي صفة “الأم”. وليست حال “الأمومة” هي المقصودة وحدها هنا، بل مفهوم “الرحم” الأمومية التي تولد فيها الذات وتتكون. فاللغة التي استخرجها الإنسان من كيانه هي أيضاً بمثابة الأم التي ولدته وتلده باستمرار. إنها أيضاً اللغة الأولى التي يتلقاها الإنسان ويعبر من خلال حروفها ومفرداتها عن مشاعره الأولى. يصنع الإنسان اللغة لتصنعه هي بدورها. يكتشفها ليكتشف نفسه عبرها. هل يمكن تصور إنسان بلا لغة وبلا لغة – أم؟
يتيح الاحتفال باللغة العربية إبراز ما قدمه كتّاب هذه اللغة وعلماؤها وفنانوها من مساهمة في الثقافة العالمية. فالمؤلفون الذين كانوا يكتبون باللغة العربية هم الذين أتاحوا نقل المعارف الإغريقية إلى اللغة اللاتينية التي كانت مستخدمة في الغرب خلال القرون الوسطى، وأقاموا بذلك صلات دائمة لا يمكن قطعها بين الثقافات عبر الزمان.
لعل هذا اليوم، اليوم العالمي للغة العربية، هو مناسبة فريدة لنا، نحن العرب، لنحتفي بـ “لغتنا الأم”، ونطرق بابها ونسألها أو نسائلها لا عن ظروفها بل عن ظروفنا نحن، عن حبنا لها وعن وإهمالنا إياها، ولندرك أين أصبحت حيال صعود “لغات” العولمة وماذا يعتريها من شجون وأية أزمات تعاني!
المصدر: اندبندنت