لعل أفضل وصف يمكن أن يطلق على السنة 2020 التي تطوي آخر صفحاتها، هو “السنة – الصفر”، فهي كانت بحق سنة القلق الوجودي الشامل الذي طاول البشرية جمعاء وفتح حدود الجغرافيا بعضاً على بعض، من دون أن يميز بين عرق وآخر أو بين إتنية وأخرى أو طبقة وأخرى. هذه السنة التي تفاءل العالم بالرقم الجميل الذي حملته (2020) خيبت الآمال، وكانت سنة الخوف والحيرة والتردد أو الانتظار، سنة انعزال الناس بل انفصالهم وافتراقهم بعضهم عن بعض، سنة التخبط في المجهول، سنة الأسئلة الشائكة التي لم توفر أوهام المستقبل وادعاءات العلوم ومقولة التفوق الحضاري والهيمنة التقنية… اليوم، عشية اقتراب الساعة الصفر، ساعة الانقضاء، يبدو كأن لا سنة تمضي ولا أخرى تأتي، ما دام وباء كورونا يهيمن على البشرية، مجمداً فكرة الزمن وحركته وآسراً العالم في دوامة الفراغ الكبير.
سنة الثقافة القلقة
إنها السنة 2020، سنة المتناقضات، سنة الحاضر والماضي والمستقبل، سنة الوراء والأمام. نودعها وكأننا لا نستقبل سنة جديدة ننتظرها بلهفة ولوعة. سنة أغرب ما فيها تلك الهالة الوهمية الرهيبة التي تحيط بها كما لو أنها البرهة الحاسمة التي تفصل بين الحياة والموت، بين الضوء والظلام. أي سنة ثقافية كانت السنة 2020 عربياً وعالمياً؟ حين يطرح سؤال مماثل يغمض المرء عينيه ليتذكر قبل أن يحاول العودة إلى الأرشيف والوثائق! ماذا يتذكر؟ يتذكر أن السنة التي تنصرم هذه لم تعرف سوى ثلاثة أشهر سليمة ربما، ثم ما لبث أن انقضّ وباء كوفيد 19 عليها وعلى البشرية، حاصداً مئات الضحايا ثم الألوف والملايين، وما برح منجله يحصد المزيد والمزيد، والأمل في اللقاحات التي باشرت مختبرات الطب والعلم تطلقها بالتوالي. كانت سنة 2020 سنة كورونا من غير تردد، مع أن لعبة الزمن في هذا القبيل، قد تغدو مدعاة للاستغراب والتساؤل. فالسنة التي تمضي خلال أيام قليلة لم تشهد إلا ثلاثة أو أربعة أشهر يمكن وصفها بـ”الطبيعية”، قبل أن يعطل كورونا الزمن أو يعلقه، متخطياً تخوم سنة 2021 التي ستقبل والتي ستكون استمراراً للسنة التي سبقتها، حتى وإن خففت اللقاحات المضادة للوباء من وطأة الإصابات وعدد الضحايا. يحتاج العالم إلى وقت غير محدد ليتخطى الخراب الذي أحدثه كورونا وليستعيد أنفاسه إذا افتُرض أن الوباء ضعف وتضاءل أثره مع الأشهر المقبلة. وهذا يعني أن السنة المقبلة ستكون شبيهة شقيقتها المدبرة، حتى يزول خطر الوباء. لكنّ ما يمكن تأكيده هو أن السنة الثقافية لا تحدد في اثني عشر شهراً. فالثقافة حركة مفتوحة ومتواصلة ولا يمكن حصرها بمبدأ الزمن، حتى وإن تميزت في سنة من دون أخرى. فما يحصد في سنة ما قد يكون زرع السنة التي سبقتها، وهكذا دواليك.
ترى هل يمكن الكلام عن ثقافة عربية خلال هذه السنة التي تنصرم وكأنها لا تنصرم، هذه السنة المفتوحة على السنة 2021 بلا هوادة، محملة إياها الهموم نفسها والخوف نفسه والانتظار نفسه؟ والسؤال الذي كان يطرح عادة قبل وباء كورونا هو: هل تتميّز ثقافة السنة المدبرة عن ثقافات السنوات التي سبقت وثقافة السنة التي سوف تقبل؟ فالحياة الثقافية العربية كانت قبل كورونا تستمر كالزمن نفسه الذي لا يرجع إلى الوراء. أجيال تصعد وأخرى تتراجع. انحطاط هنا ونهضة هناك ومراوحة هنالك. انتظار لا يعقبه سوى انتظار. تظاهرات ثقافية ومهرجانات ومعارض كتب ورقابات أيضاً وهزائم فردية وأزمات خانقة وهموم وشؤون وشجون. أما المثقفون العرب فكانوا دوماً بمثابة الغرباء الحائرين في وسط عالم يفتقدونه ويفتقدهم مرحلة تلو أخرى. بعضهم أصبحوا مجرد متأملين في ما يحصل من حولهم، وبعضهم يتوهمون أنهم يصنعون “الحدث “وهم ليسوا إلا متواطئين مع هزائمهم. وبعضهم أيضاً لا يضيرهم أن يكونوا في عداد مثقفي السلطة من غير تردد.
الكتاب والنشر
لم يتضرر قطاع النشر العربي سابقاً كما تضرر خلال سنة كورونا، حتى في ظل الحروب التي عرفها العالم العربي لم يشهد هذا القطاع حالاً من التراجع بل الشلل، يماثل ما عرفه خلال هذه السنة. وعندما نقول قطاع النشر فإنما المقصود هو الكتاب والكاتب والقارئ عطفاً على النشر نفسه والتوزيع والتسويق. وبحسب اعتراف معظم الناشرين العرب، كانت هذه السنة أسوأ سنة في مسار الكتاب العربي. ولعل أبرز ظواهر هذا السوء أو الضرر هو توقف حركة معارض الكتب التي كانت تخضع لإيقاع متواصل بين عاصمة وأخرى أو بين مدينة وأخرى. فالمعارض هي الرئة التي يتنفس بها قطاع النشر، ويبلغ معدل المبيع خلالها نحو 53 في المئة من سوق الكتاب. والمعارض هي الأوفر ربحاً في حساب الناشرين، فالمداخيل شبه صافية نظراً إلى غياب الموزعين وأصحاب المكتبات الذين يتقاضون حصتهم. عدا عن كون المعارض فرصاً سانحة ومهمة أدبياً وثقافياً، فهي تشكل ظاهرة سنوية أو موسمية ينتظرها الكتّاب والقراء ليلتقوا ويتناقشوا، سواء في الندوات أم في الجلسات الأليفة في المقاهي ومنصات توقيع الكتب. هذه السنة ومع انتشار كورونا تعطلت معظم المعارض وأجلت، واستطاع معرضا الشارقة وبغداد أن يكسرا الحصار متحَديَين الظروف القاهرة، لكن الكلفة كانت باهظة مادياً في معرض الشارقة الذي وفر كل شروط الحماية الصحية للناشرين كما للزوار.
أما في ما يخص حركة بيع الكتب فقد هبط المبيع عموماً نحو 50 في المئة، نظراً إلى إقفال مكتبات كثيرة وعدم تحمس القراء للشراء المباشر. واللافت هنا أن مبيعات المواقع الإلكترونية ازدادت بوضوح، وتراوحت بين 30 و80 في المئة كما يشير بيان اتحاد الناشرين العرب، على الرغم من أن إيصال الكتب في ما يشبه “الديليفري” إلى المشترين، كان يواجه في أحيان غير قليلة، صعوبات جمة، لا سيما في الخدمة البريدية التي كانت تتعثر وفق الظروف. أما الكتب الإلكترونية أو “إي بوك” التي اعتمدتها دور نشر كثيرة فشهدت رواجاً ملحوظاً، عبر “أمازون” أو مؤسسة “أبجد” العربية، مع أن عناوين كثيرة غير متوافرة إلكترونياً. وقد حفّز الواقع الراهن المأزوم دوراً كثيرة إلى اعتماد الكتاب الإلكتروني الذي يمثل حلاً ممكناً في وسط هذه الأزمة المتفاقمة.
رواج الروايات المترجمة
غير أن تراجع حركة النشر لا يعني أن حركة التأليف والكتابة متراجعة أو مشلولة، ويفيد معظم الناشرين بأن لديهم مخطوطات عديدة ومشاريع نشر، لكنهم يتريثون كثيراً حيالها، منتظرين تحسن الأوضاع وانفتاح الأسواق. إنهم يترددون حتى في شأن نشر الروايات العربية التي تجذب القراء عادة، لكنهم لا يتوانون عن نشر الروايات المترجمة في شتى حقولها. فالروايات هذه تلقى رواجاً سريعاً، خصوصاً عندما تكون أسماء أصحابها لامعة ومعروفة. هذه السنة صدرت روايات مترجمة كثيرة لروائيين عالميين ومنهم على سبيل المثل: إيلينا فيرانتي، أليف شافاق، كافكا، مارسيل بروست (السلسلة الكاملة لـ”البحث عن الزمن الضائع”)، فيرجينيا وولف، تشيخوف، دوستويفسكي (ترجمة جديدة)، أولغا توكارتشوك (الفائزة بنوبل 2019)، إيزابيل اليندي، مارغريت إتوود، أوسكار وايلد وسواهم من الروائيين العالميين الجدد. ويمكن القول إن حركة الترجمة لا سيما ترجمة الروايات لا تزال تشهد حالاً من الازدهار على الرغم من أزمة النشر عموماً.
ثمة سؤال طُرح خلال الأشهر الأخيرة عربياً وعالمياً حول إمكان بروز رواية تسمى “رواية كورونا”، ودار نقاش انطلاقاً من هذا السؤال، وأجمع نقاد وكتاب حول ما يشبه الجواب الواحد وهو أن من الباكر التحدث عن “رواية كورونا”، فهي تحتاج إلى المزيد من الاختمار والتبلور خصوصاً أن وباء كورونا لا يزال في أوج انتشاره وآثاره لا تزال فادحة. وقد تحتاج كتابة رواية عن كورونا إلى مزيد من الوقت، بغية التأمل واستخلاص الأفكار والمقاربات. لكنّ وباء كورونا حضر في رواية الكاتبة المغربية عائشة البصري وعنوانها “كجثة في رواية بوليسية” وكذلك في رواية الكاتب اللبناني الفرنكوفوني ألكسندر نجار وقد صدرت في باريس بعنوان “تاج الشيطان” وترجمت إلى العربية. لكن المفاجأة تتمثل في رواية الكاتب الجزائري واسيني الأعرج، وهي رواية ضخمة في جزءين تتناول وباء كوفيد-19 في تداعياته والآثار التي تركها في البشر والمدن، وتصدر خلال أسبوع عن دار الآداب وعنوانها: “ليليات رمادة” والجزء الأول يحمل عنواناً ثانوياً هو “تراتيل ملائكة كوفيلاند” والثاني “رقصة شياطين كوفيلاند”.
مبدعون راحلون
شهدت سنة كورونا رحيل عدد غير قليل من الكتاب والمفكرين والفنانين والمثقفين، بعضهم سقط ضحية الوباء وبعضهم ضحية قدره. ومن أسماء الراحلين: الكاتب السوري رياض عصمت، القاص المصري سعيد الكفراوي، الشاعر المصري رفعت سلام، المترجم الفلسطيني صالح علماني، الروائي الأردني الياس فركوح، الممثلة المسرحية المغربية ثريا جبران، الفنان التشكيلي المغربي محمد المليحي، الكاتب المغربي حسن المنيعي، الرسام اللبناني حليم جرداق، المفكر السوداني منصور خالد، الشاعر الإماراتي ثاني السويدي، الروائي المصري بهاء عبد المجيد، المسرحي المصري لينين الرملي، الكاتب المصري محمد عمارة، الروائي السوداني أحمد مصطفى الحج، الكاتب المسرحي المغربي حسن لطفي، الكاتب المغربي نور الدين الصايل، المخرج السينمائي السوري ريمون بطرس، الشاعر الأردني الفلسطيني محمد الظاهر، الكاتب الأردني فايز صياغ، الكاتب السوداني عزالدين الهلالي وسواهم…
الثقافة الكورونية المعولمة
بدت السنة 2020 مختلفة عن السنوات السابقة بصفتها سنة الوباء كوفيد-19، أي سنة الكارثة غير المتوقعة. اليوم يعيش العالم لحظة تاريخية حرجة مع انتشار فيروس كورونا، لحظة تضع الحضارة الحديثة وما بعد الحديثة، أمام أسئلة شائكة حول جدوى التقدم العلمي والتكنولوجي وحول انفجار الثقافة المعلوماتية وقيام زمن العولمة. أُطلقت قبل أعوام مقولات مثيرة مثل “نهاية التاريخ” و”موت الحداثة” وسواهما وأحدثت جدلاً ما زال مفتوحاً ولم يؤدّ إلى حال من اليقين، بل زاد من واقع الاضطراب الذي يشهده العصر الحادي والعشرون. ولعل حلول فيروس كورونا الخطير قلبَ النظريات التفاؤلية والأفكار اليوتوبية وأعلن مفهوماً آخر للتاريخ. الحروب والأوبئة والكوارث الجيولوجية اجتاحت الأرض والبشرية على مر العصور وحصدت ما لا يحصى من الضحايا. الآن في القرن الحادي والعشرين يجتاح الأرض والبشرية وباء رهيب فاجأ العلماء والمختبرات والمصانع النووية التي كان يظن البشر أنها أخطر ما يُحدق بهم.
وحّد وباء كورونا العالم والقارات مؤكداً أن القرية الصغيرة التي قالت بها العولمة غير قادرة فعلاً على الصمود في وجه هذه الجائحة المرعبة. لقد اخترق وباء الكورونا خلال فترة زمنية قصيرة تخوم العالم وسرى بسرعة كما تسري الإشاعة عبر وسائل التواصل الإلكتروني، متجاوزاً الخطوط الجغرافية والحواجز الإثنية والدينية والاجتماعية والطبقية، مؤكداً حقيقة أن العالم “قرية” واحدة بحسب المقولات التي حملتها إلينا ثقافة العولمة وفلسفة ما بعد الحداثة. وبدا هذا الوباء الرهيب أشبه بأحد وجوه “العولمة” ولكن، الفيروسية والمرضية، القادرة على جمع شمال العالم بجنوبه، أثريائه بفقرائه، تقدمه التكنولوجي ببؤسه أو تخلفه، فردانيته بجماعيته أو شعوبيته.
لقد حل وباء الكورونا الذي يوصف بـ “السحري” في مرحلة هي الأشد ازدهاراً بحسب ما يدّعي أرباب العالم الأول، بل الأشد حداثة وتقدماً تكنولوجياً، حتى غدت المختبرات على اختلاف أنواعها كأنها سيدة البشر، وأضحت الاختراعات المذهلة والمتتالية قدرهم الجديد. إنها مرحلة العولمة التي ألغت الحدود القديمة (افتراضياً طبعاً) بين قاطني الكرة الأرضية، ومحت الفروق بينهم وجعلتهم رعاعاً في مملكة متوهمة. كانت أنظار البشر، كل البشر، موجّهة دوماً – ولا تزال – إلى سباق التسلح النووي والأخطار التي تتهدد حياتهم وحياة الأرض، كل لحظة. وكانوا – ولايزالون – يلهثون خوفاً من أي خطأ يرتكبه حاكم “نووي” مجنون أو سلطة مجنونة، قد يؤول إلى خراب لم يكن خراب هيروشيما وناكازاي إلا مثلاً ضئيلاً، شديد الضآلة، عنه. حل وباء الكورونا حاملاً في ثناياه خطراً محدقاً ورهيباً، لئيماً ومتعنتاً، يهدد البشرية، أفراداً وجماعات.
سنة تمضي وكأنها لا تمضي وسنة تقبل وكأنها شبيهة السنة التي مضت. إنها سنة الحيرة والقلق والخوف، تظل هي نفسها، وكذلك الأسئلة التي تتأجل الإجابة عنها هي نفسها، مادام وباء كورونا يهدد العالم والبشر.
*اندبندنت