كتب سمير عطالله روايته الجديدة “ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس” (الدار العربية للعلوم) في ما يشبه المصادفة، فهو الذي اعتاد خلال مساره الصحافي الطويل، نشر نصوص بأسماء مستعارة، عربية أو أجنبية، رغبةً منه في أداء لعبة “القرين”، التي أتقنها كتاب كبار، اضطر ذات مرة إلى كتابة نص سردي بعنوان “ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس” يحمل اسم كاتب أجنبي هو رودريغز دي سيلفا، واكتفى بتوقيع اسمه بصفته مترجماً للنص. كتب عطالله هذا النص السردي الطويل ليحل محل “مقال الأربعاء” الذي دأب على نشره منذ سنوات، كل يوم أربعاء في الصفحة الأولى من جريدة “النهار” اللبنانية. وكان موعد المقال الأسبوعي يقارب ليلة رأس السنة، وكان مقرراً أن يكتب في شؤون بل شجون عام ينصرم، لكنه وجد نفسه متبرماً حيال تعاسة العام ومآسيه الصغيرة والكبيرة، فابتدع هذه اللعبة “التنكرية”. لكنّ النص السردي سرعان ما لفت أنظار قراء كثيرين، لبنانيين وعرب، ونال إعجابهم خصوصاً بعد نشره في مواقع إلكترونية عدة. وكان لا بد لبعض القراء من البحث عن هذا الكاتب الذي يوحي اسمه ونصه أيضاً بكونه برتغالياً، لكنهم لم يجدوا أثراً له. كتب أحد الروائيين المعروفين معلقاً على النص واصفاً إياه بأنه من أبدع ما قرأ من نصوص مترجمة.
لم تنطل اللعبة على بعض القراء ومنهم الكاتب جهاد الزين، الذي لم يقتنع البتة بأن النص مترجم، وألفى سمير عطالله نفسه محرجاً بعد هذا الترحاب، فقرر مواصلة إكمال النص الذي بدا بوضوح، كأنه فصل أول من رواية، قصيرة أو طويلة. ولم تمض أسابيع حتى أنهى عطالله كتابة روايته هذه، فنشرت ولكن باسمه وليس باسم رودريغز دي سيلفا الراوي الرئيس. هكذا أثمرت اللعبة عملاً روائياً قد يسمى نوفيللا بحسب التصنيف الغربي أو رواية قصيرة. إلا أن خطورة هذه النوفيللا تكمن أساساً في كونها رواية برتغالية صرفة، بجوها وأمكنتها وشخصياتها ووقائعها التاريخية، بل هي تميل أيضاً إلى أن تندرج في سياق السرد الأميركي اللاتيني والبرازيلي، ففيها وظف عطالله ذاكرته الروائية وقراءاته الدؤوبة للأدب الروائي الذي أبدعه كتاب مثل ماركيز وجورجي أمادو وبارغاس يوسا وساراماغو وسواهم.
ومن يقرأ الرواية يشعر فعلاً بأنه إزاء أدب برتغالي بجوه الواقعي أو السياسي والتخييلي والطبيعي، وبطباع أشخاصه وعاداتهم وأمزجتهم. ومما يزيد من الهوية البرتغالية حضور لشبونة والمناطق النائية ومطربة الفادو أماليا “صوت البرتغال” والشاعر بيسوا وثورة القرنفل والكهنة والضباط والاستخبارات وفتيات الهوى وحياة الليل… ولئن كانت جزيرة دوس سانتوس وبلدة إيستوريا دي ليبرداد اللتان تدور فيهما الأحداث، من نسج الخيال، فهما تبدوان كأنهما تنتميان إلى الجغرافيا البرتغالية، مثلما ينتمي أشخاص الرواية إلى واقع البرتغال التاريخي والاستعماري وما بعد الحكم الدكتاتوري. فبعض الأحداث تجري في أنغولا المستعمرة البرتغالية في أفريقيا، وتحديداً في عاصمتها لواندا، ووسط الجالية البرتغالية التي عاشت هناك حتى الحرب التي وقعت وأفضت إلى انسحاب البرتغاليين.
رواية لبنانية برتغالية
لعل السؤال الذي تطرحه مغامرة سميرعطالله: هل يحق لكاتب لبناني مثلاً أو عربي أو فرنسي أن يكتب رواية برتغالية تماماً، لا علاقة لها بجذوره ولغته ووجدانه؟ لعل الجواب هو نعم، بلا تردد، والحجة عديد الروايات والنصوص التي كتبها مؤلفوها انطلاقاً من بلدان ليست بلدانهم، وأمكنة وتواريخ لا تمت بصلة إليهم، ناهيك بالمنافي وبلدان الهجرات. والأمثلة كثيرة خصوصاً في زمن العولمة الثقافية والأدبية ، ويكفي ان نذكر اسماء مثل: ماتياس إينار، بول بولز،أمين معلوف، جيلبير سينويه، ياسمينا خضرا، خوان غويتسولو، الكسندر نجار…
يتولى السرد في الرواية رودريغز دي سيلفا، مدرّس أدب متقاعد وشاعر كتب قصائد للأطفال، وبعضها حفظها التلامذة في المدارس. غادر رودريغز أنغولا المستعمرة البرتغالية عائداً إلى بلدته إيستوريا دي ليبرداد (المتخيلة) في جزيرة دوس سانتوس (المتخيلة أيضاً)، التي يعيش معظم أهلها في حال التقاعد، ليقضي سنواته الأخيرة بهدوء، جالساً على الشرفة، مستعيداً ذكرياته، يعتريه الحنين إلى لواندا، عاصمة أنغولا التي عاش فيها ردحاً، برعاية عمه الكولونيل فابيوس، وقد أصبح رب العائلة بعد وفاة والده. لكن حدثاً رئيساً لا يلبث أن يقلب حياته، هو المتصالح مع بدايات شيخوخته، ويشعل فيه نار الحب الخامدة منذ عقود. يتلقى اتصالاً من شقيقته ميموزا تدعوه إلى قضاء رأس السنة في بيتها في الجزيرة مع أسرتها وبعض المدعوين، عندما يحاول التملص تذكره بعمه فابيوس الراحل الذي سيكون طيفه حاضراً. في السهرة العامرة على الطريقة البرتغالية يتعرف إلى مذيعة الأخبار في التلفزيون الرسمي لارا أندريا، الشابة الساحرة، والمشهورة جداً، والتي تطل على الجمهور في نشرة الثامنة مساء. يندهش بجمالها وعندما يعرّفونه إليها فتفرح به كثيراً وتبوح له بحبها لشعره منذ أيام المدرسة، وتردد له قصائد تحفظها غيباً. تميل إليه وتجد فيه صورة لوالدها وتتعلق به طوال السهرة، بينما هو يصاب بسهمها للفور في ما يسمى حب النظرة الأولى، وينتابه ارتجاف يذكره بحبه الأول في لواندا عندما كان في الخامسة عشرة.
حب في الحديقة
وعندما يخرجان للجلوس في الحديقة تلامس الشعر الأبيض على عنقه وتشبك يدها بيده وتضع رأسها فوق كتفيه. قال لها هامساً، بعد أن أدرك استحالة هذا الحب: “سوف تعودين غداً إلى عطرك وشبابك، وأنا أذهب إلى أين؟”. تشعر هي بإحراج وتظن أنها أخطأت بشعورها العاطفي العفوي نحوه، وتعتذر منه في آخر السهرة على الأذى الذي سببته له. يقول لها: “ليس لي في حياتك سوى ليلة واحدة بيضاء”. هذا الحب الصاعق يهز وجدانه، حب خريف العمر، الذي يجعل العمر كما يقول، “وقفة على حافة العدم، وامتحاناً مريعاً وغامضاً وشائكاً بين الحياة والشيخوخة”. ومما يقول: “ماذا تفعلين في خريفي يا لارا أندريا، أنت وعذوبتك؟ إلى أين أذهب من هنا بعد اليوم؟ وكيف ستتسع إيستوريا الصغيرة لعزلتي؟”. هذا هو الحب في الخريف، الحب الحارق والعابر كومضة برق، الحب الذي يخض الوجدان بقوة، موقظاً رغبات العشق الدفينة.
وفي رحلة العودة على متن السفينة التي تحمل الضيوف إلى ميناء لشبونة، ليتجه كل في سبيله، يتأمل رودريغز الجميلة لارا أندريا النائمة، متحسراً على تلك اللحظات التي لن يبقى منها سوى جرح عميق وخفيف في آن واحد. لكن هذا الحب الذي دب في روح رودريغز “اليابسة” كما يعبر، جعله يسترجع حبه الأول في لواندا، الحب الحزين الذي لم يكتب له أن يتحقق. حينذاك في الخامسة عشرة وقع رودريغز في حب فتاة أفريقية تدعى ويندا، سرعان ما اضطر إلى تركها على الرغم من ولعه بها، جراء موقف والدته وعمه فابيوس العنصري، تجاه الأفارقة.
قصة صوفيا
في رحلة العودة على متن السفينة نفسها المبحرة نحو لشبونة، يبصر رودريغز امرأة كأنه شاهدها من قبل، لكنه لم يبال بها، فهو كان مشغولاً بلحظة وداع لارا أندريا. لكن هذه المرأة لا تلبث أن تقترب منه معرّفة بنفسها أنها صوفيا، “أرملة فابيوس”، وأنها كانت مدعوة إلى السهرة وأن من دعاها هو شقيقته ميموزا. يفاجأ رودريغز بها، فتوضح له أن عمه فابيوس لم يكن زوجها بل فارسها وعشيقها وحاضنها في زمن المحنة. تسرد له حياتها على متن الباخرة، هي التي اضطرت إلى الهجرة إلى أنغولا المستعمرة البرتغالية، هرباً من الفقر، مع عائلتها، والدها الكاهن رافايلو وأمها وأختها ألكسندرا. هناك خلع والدها ثوب الكاهن وانجرّت هي وشقيقتها، الصبيتان الفقيرتان، إلى عالم الدعارة وكانتا مرغوبتين لكونهما برتغاليتين بيضاوين. لكن الشرطة الاستعمارية تلقي القبض عليها مرة في مقهى المتروبول في لواندا وتسوقها إلى الكولونيل فابيوس، رئيس المخفر. وعوض أن يسجنها لكونها برتغالية تمارس الدعارة، يشفق عليها ثم يقع في حبها ويجعل منها خليلة بل أشبه برفيقة حياة، ويعمل على مساعدة أسرتها.
في ما سردته صوفيا إلى رودريغز تتضح صورة لواندا والاستعمار البرتغالي وبدايات حركة التمرد الأنغولي ضد الاستعمار. ولا تخفي عليه خيانتها السياسية البريئة لعشيقها فابيوس، عندما انضمت إلى إحدى الفرق الأنغولية المتمردة سراً، وسربت لهم بعض المعلومات غير المهمة، من طريق الوشاية.
تعيش صوفيا بعضاً من الحرب في أنغولا بعد رحيل كثيرين من الجالية البرتغالية، وتعاني ظروفاً صعبة خصوصاً مع شقيقتها ألكسندرا التي هجرها زوجها الإيطالي المنافق، والتي أصيبت بمرض أقعدها على الكرسي النقال. بعد موت شقيقتها تعود صوفيا إلى بلادها مكسورة لتعيش في دير الراهبات الكلارسيات في ضواحي لشبونة. ولكن بعد وفاة فابيوس يتضح أنه ترك لها في وصيته نصف أملاكه والنصف الآخر لشقيقه رودريغز، ميموزا التي تتصل بها لتعلمها الامر بسرور، فهي كانت تحبها.
حب عشيقة العم
عند وصول الباخرة إلى لشبونة يدعو رودريغز صوفيا للذهاب معه إلى بلدته ثم إلى العيش في بيته المعزول، لكن هذه المساكنة شبه الزوجية تثير حفيظة أهل البلدة والكاهن، وحتى شقيقته ميموزا التي أخذها الخوف من ان يتزوج شقيقها، صديقتها صوفيا التي ظلت بنظرها مومساً. وكان رودريغز يلوم نفسه بالسر، حول اتخاذه خليلة عمه خليلة له أيضاً، ولو لفترة قصيرة. تضطر صوفيا إلى العودة إلى الدير، لكن الحظ لن يلبث أن يبتسم لها. فهي عندما كانت تعمل مومساً في مقهى المتروبول في لواندا، تلتقي ببحّار أميركي يعجب بها، بل يقع في حبها من النظرة الأولى، ويرفض أن يقضي ليلة حمراء معها، ويبوح لها بحبه، واعدا إياها بأنه سيعود ليصطحبها معه إلى أميركا، ويتزوجان من ثم. لكن الحرب التي وقعت بددت كل هذه الأحلام. غير أن هذا البحار الذي يدعى خواكيم سانتانا يطرق باب رودريغز مرة، بعد أن فتش عن عنوانه، ويسأله عن حبيبته صوفيا. يذهبان معاً إلى الدير البعيد في المنطقة المقفرة، ويلتقيان صوفيا. يصطحبها إلى أميركا ويتزوجان. ولا تبقى من آثار صوفيا سوى رسائل جميلة تخبر فيها رودريغز عن حياتها السعيدة.
تحضر البرتغال بقوة في رواية “ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس”، بجوها وطبيعتها وطبائع ناسها وروائح أشجارها ونباتاتها وأغاني الفادو وصوت أماليا مغنية البرتغال وأخيراً بثورة القرنفل التي حصلت في 25 أبريل (نيسان) 1874 ضد حكم “ستادو نوفو” والديكتاتور مارشيلو كايتانو سليل الديكتاتور أنطونيو سالازار. وتحضر خصوصا باستعادة عطالله نصوصا للشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسوا وجلوسه في مقهى قرب تمثاله في إحدى ساحات لشبونة. ومن القضايا المهمة التي يطرحها سمير عطالله في الرواية، قضية انهيار الاستعمار البرتغالي الذي يمثل وجهاً من وجوه الكولونيالية التي أرهقت الدول الفقيرة في تاريخ العالم.
يكتب سمير عطالله روايته بروح سردية ذات حنين أميركي لاتيني، فهو لا يخفي الأثر الذي تركه فيه ماركيز، خصوصاً في “الحب في زمن الكوليرا” و”يوميات موت معلن”، وكذلك جورجي امادو وبرغاس يوسا وسواهما. لكنّ عطالله يُعمل هنا قلمه ومخيلته الساحرة وهوسه بالجغرافيا والتاريخ العالميين، وكذلك رهافته اللغوية وليونته الاسلوبية، مفجراً المعنى الذي يوحيه الحب في روح الشعراء الذين هم على حافة الشيخوخة. وهذا الحب نجح عطالله في منحه هالة وجدانية وفلسفية، مذكراً بالروائيين الذين كتبوا في هذا الحقل، ومنهم كواباتا وتانيزاكي وماركيز وباسكال كينيار وسواهم.
*اندبندنت