بدا رحيل الشاعر السوري بندر عبد الحميد في دمشق أمس مساء أشبه بمفاجأة أليمة صدمت أصدقاءه الكثر، في سوريا الداخل والمنفى وفي العالم العربي. فهذا الشاعر والناقد في حقل السينما لم يكن يتذمر حتى في أشد الأيام مأسوية وسوداية، بل كان يحافظ دوماً على ابتسامة خفرة تخفي وراءها أملاً ما وهدوءاً كان سمة من سمات شخصيته. لطافة واتزان وعدم توتر أو انفعال حتى في الأمور الصعبة، وحماسة إزاء الشعر والسينما والكتابة الصحافية، وثقافة شاملة عمل على ترسيخها في زمن كان يحلو له أن يسميه “زمن العزلة” داخل سوريا وفي ظل حكم البعث واستخباراته وأيديولوجيته المغلقة. رحل بندر عبد الحميد عن73 سنة أمضى جلها يقرأ ويكتب، منفتحاً على أصدقاء دائمين، سوريين وعرب، كانوا يؤمّون ما كانوا يسمونه “غرفة بندر” التي كانت ملحقة بمنزله في شارع العابد الدمشقي ومنفصلة عنه في آن، وكان يحيي فيها سهرات من الشعر والأدب والنقاش الثقافي وعرض الأفلام المهمة والممنوعة التي كان يحصل عليها تهريباً. هذه الغرفة قصدها معظم الشعراء والكتاب والفنانون العرب الذين كانوا يزورون دمشق.
وفد الشاعر البدوي من الحسكة، مسقط رأسه، إلى دمشق بعدما أنهى دراسته الثانوية، لكنه ظل يحمل في دخيلته كل ذكريات الماضي الجميل وحياة أسرته التي كانت تتنقل بين قرية وأخرى ترعى أغنامها وتقطن في أحيان بيوت الشعر. انتقل بندر الفتى من مدرسة العشائر إلى مدرسة الغسانية فإلى جامعة دمشق شاباً متحمساً يبحث عن الدفء والحب في مدينة كبيرة وجد نفسه فيها واحداً من شعراء أرصفتها وزواياها، مثله مثل سائر رفاقه الشعراء الذين يجايلونه. لكنّ هذا الشاعر الذي بدأ كلاسيكياً ملتزماً الوزن والقافية ثم انفتح على القصيدة التفعيلية التي راجت في الستينيات، كان يرسل قصائده من الحسكة إلى مجلات عدة سورية وعربية، وكانت تنشر له من دون أن تعرف من يكون، ومنها مجلة “الأديب” اللبنانية و”العربي” الكويتية و”المعرفة” السورية و”الآداب” البيروتية التي كانت تخوض حينذاك معركة القصيدة التفعيلية أو ما يسمى “الشعر الحر” القائم على نظام التفاعيل، ثم في “الثقافة المغربية”… لكنّ الشاعر الشاب ما لبث أن تحرر من القصيدة التفعيلية بعدما استتب له المقام في دمشق وأصبح واحداً من شعرائها الجدد الذين أعقبوا أدونيس الذي لم يقم كثيرا في دمشق، ومحمد الماغوط الذي رافقوه وجالسوه، وتأثروا به شاعراً وناثراً و بثورته على الشعر التفعيلي لا سيما بعد انضمامه إلى مجلة “شعر” التي كان أسسها الشاعر يوسف الخال في بيروت، وغدت موئل الشعر الحديث في تجلياته كافة وخصوصاً قصيدة النثر.
الشاعر المستقل
شارك بندرعبد الحميد مع رفاقه في تأسيس موجة شعرية جديدة، متعددة المشارب والهموم، لكنها لم تخلق تياراً محدداً مرتبطاً بنوع معين أو بمدرسة معينة، بل كانت الموجة هذه مفتوحة على التحولات الشعرية العربية والعالمية التي كانت تصل أصداؤها إلى دمشق. بعض الشعراء كان أثر الشاعر أدونيس واضحاً في قصائدهم وبعض آخر تأثر كثيراً بشاعر “حزن في ضوء القمر” وبشعراء مجلة “شعر” وثورتها وبعض الشعراء العرب مثل بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وسعدي يوسف وبالشعر السوريالي والشعر الاشتراكي وسواهما. وفي مثل هذا الجو من التأثر والتبادل الشعري والثقافي، ظل بندر نسيج وحده، يعيش في موقع خاص به، منفتحاً على كل التيارات ولكن غير منحاز إلى أيّ منها. ولعل هذا الحياد هو ما جعل من الصعوبة تصنيف تجربته ضمن اتجاه أو انتماء. شاعر يكتب بحرية، وعلى طريقته، شاعر ملتزم حيناً وسوريالي حيناً، صوفي وحسي، رمزي ورومنطيقي، هادئ ورؤيوي، ينأى عن التجريب المبالغ فيه وعن التجريد والانفعال. حتى قصيدة النثر كتبها على طريقته معتمداً لغة هي لغته. لكنه استفاد لاحقاً، عندما بدأ اهتمامه بالسينما، بالجماليات السينمائية والأبعاد البصرية ووظفها في صلب صنيعه الشعري. وكان يفاجئ القارئ أحياناً باستخدام أسماء ممثلين وممثلات في السينما كان يحبهم ويحبهنّ، عطفاً على بعض التقطيع المشهدي في بعض القصائد.
اكتشف بندر عبد الحميد السينما بعمق خلال سفره لدراسة الصحافة في هنغاريا عام 1979 فشاهد الكثير من الأفلام التي كانت ممنوعة في سوريا البعث، والتحق بأحد النوادي السينمائية وطوّر ثقافته في هذا الحقل وعمّقها. وعندما عاد إلى دمشق سرعان ما التحق بهيئة تحرير مجلة “الحياة السينمائية” وواظب على العمل فيها سنوات. ثم أصدر سلسلة مهمة جداً وفريدة من نوعها هي سلسلة “الفن السابع” تغطي كل نواحي الفن السينمائي وأبعاده وجمالياته وتقنياته وأبرز المخرجين والممثلين والتجارب القديمة والحديثة والسيناريوهات. وبلغت السلسلة نحو 160 كتاباً بين الترجمة والتأليف، وشكلت مكتبة رائدة وفريدة في عالم الثقافة السينمائية واكتسبت شرائح كبيرة من القراء العرب. وكان بندر ناقداً سينمائياً قديراً، تابع حركة السنيما العالمية والعربية الجديدة والحديثة وكتب عن التاريخ السينمائي والرواد مخرجين وممثلين. ولعل كتابه “ساحرات السينما… فن وحب وحرية” الصادر عام 2016 عن دار المدى يعبر عن شغفه الكبير بالسينما وقد قدم فيه 145 نجمة سينمائية من جنسيات ومراحل مختلفة. وركز على السيرة الذاتية لكل نجمة وأهم أدوارها السينمائية، مع مختارات من أقوالها. ومنهنّ: كلارا بو، بولا نيغري، غريتا غاربو، ماري بيكفورد، ريتا هيوارث، مارلين مونرو، جين تيرني، أغنيس مورهيد، جون أليسون، أودري هيبورن، بوليت غودار، نورما تالماج، مورين أو سوليفان، نورما شيرر، دونا ريد، لانا تورن. يُقرأ هذا الكتاب بمتعة، فهو يجمع بين سحر السيرة وسلاسة الأسلوب وجمال السرد. وعمل بندر في حقل النشر مديرا لدار المدى في دمشق طوال عشرين عاماً، فكان يشرف على اختيار الكتب العالمية لتترجم الى العربية، إضافة الى الكتب العربية.
توقع المأساة
أما شعرياً فلم يكن بندر غزيراً جداً أو مكثاراً كما يقال، كان يكتب بهدوء، حين يجد نفسه جاهزاً للكتابة، ولم يكن يسعى إلى الافتعال والتركيب بل حافظ على العفوية والرصانة. وكان كما يقول ينتظر اكتمال الديوان مهما طال الانتظار فينشره. أما دواوينه فهي: “كالغزالة كصوت الماء والريح” 1977، “إعلانات الموت والحرية” 1978، “احتفالات” 1979 “كانت طويلة في المساء” 1980، “مغامرات الأصابع والعيون” 1981، “الضحك والكارثة” 1994. ولعل الديوان الأخير الذي صدر له عام 2002 حمل عنواناً غريباً وذا دلالة وهو “حوار من طرف واحد”، فأي حوار هذا الذي يكون من طرف واحد؟ أليس هو أشبه بمونولوغ في غياب الطرف الثاني الذي هو الآخر؟
في العام 1984 نشر بندر عبد الحميد قصيدتين في مجلة “الكرمل” التي كان يرأس تحريرها الشاعر محمود درويش، وكان عنوان إحدى القصيدتين “موت الرجل البدوي”، وفيها بدا كأنه ينتنبأ بما حصل أخيراً من مآس في العالم العربي وسوريا خصوصاً، فيتحدث عن”الثورة المستديرة التي تقتلنا” وعن العباءة العربية التي “نصفها علم ونصفها كفن”، ويذكر “القبائل التي تأكل أبناءها”. ومما يقول: “هنا الشرق /لا الشمس تأتي/ ولا الصنم المتحجر ينهض من نومه/ يذبحون النساء وبعض الرجال”. ولعل شاعراً توقع مثل هذا المصير العربي كان له أن يتألم بصمت إزاء المجازر التي ارتكبها نظام البعث في سوريا والخراب الذي أحدثه في المدن والقرى والدم الذي أراقه بلا رحمة. عاش بندر المأساة السورية متألماً وموجوعاً وشبه منعزل، وحاول أن يقاوم بصبر، عبر الشعر والسينما والعمل الثقافي الدائم وفي ظنه أنه يحاول مثل بعض الشعراء والروائيين والفنانين الذين لم يختاروا المنفى الخارجي، أن يتمسكوا بالأمل، أحقيقة كان أم وهماً.
*المصدر: انبدندنت