نمتُ نصفَ قرن،وفقتُ الآنَ لأُفيق احتفالاتِنا بيوم الشعر العالميّ في بيوت عامودا الطين، تلك التي تمكثُ في الأطراف بعيدةً عن لصوص النهار وحرافيش البعث.
من خلال الشعر تعرّفتُ على ماركس السرياليّ، ومن خلال رياض صالح الحسين عرفتُ حسين مروة، ومن خلال محمد الماغوط دخلتُ عالمَ الثورة ولن أخرج منه، فالحياةُ ثورة دائمة “لأنّها فكرة،والفكرةُ لا تنتهي أو تموت، بل تجدّد”.
الشعرُ علّمني أن أثورَ على الذات والآخر. الذاتُ تودُّ البقاءَ في تعاليمها المُغلقة، فأوّلُ الثورة على الذات هو كسرُها والابتعادُ عنها لتصبح الذاتُ هي الآخر “الكأسُ أجملُ مكسورةً ممّا هي معافاة”.
والدي كان مَعلماً في الفقه واللغة ومُعلّماً في تفسير الشعر وتفكيكه، أتذكّرُ تعاليمَه وأتلمّسُه الآن حين يشرح بيتاً واحداً لعدّة ساعات لابن الفارض، فأخرجُ من جلسة أبي، وكُلّي روحانياتٌ ومواقفُ ومخاطبات، من تلك الجلسات تعلّمتُ النظم الكلاسيكيّ موسيقياً، وتعلّمتُ النظم التفعيليّ في الثانويّة، ثرتُ على النظمين تيمّناً بمكتبة أخي محمد عفيف التي كانت تضمُّ سعدي يوسف وبريفير وسان جون بيرس وأدونيس,في مناخ رطب كنتُ أقرأُ أدونيس، فخَطَفَ والدي الكتاب مني ليعيده إليّ قائلاً: “أنت تقرأُ أدونيس دونَ أن تفهمَه”. للأمانة لا أفهمُه حتى الآن.. فلماذا أفهمُ ما يُقال؟.
منذ أكثر من ثلاثين عاماً أتنفّسُ الشعرَ كتابةً وقراءةً وعادةً وتقليداً دونَ أن يخذلَني يوماً، لكنّي خذلتُه عشرات المرّات أو مِئاتها دونَ أن يعاتبني، فقد مرّت سنواتٌ على تغريبتي التي كانت تغريني بعناق فضائها الشعريّ، لكنّي خذلتُها.
كان الشعرُ رفيقي في بلاد العجم التي أقمتُ فيها سنواتٍ أو التي غادرتُها بعدَ أشهر أو أيام، كنتُ أردّدُ بعدَ مغادرتي تلك البلادَ: “إنّي إلى قوم سواكم لأَميلُ” ففي الأرض منأى للكريم عن الأذى.
في مرحلة تالية من تغريبتي أجسُّ وأترجمُ حياةَ الألمان “المشرّدين وصيّادي الأسماك والسكّرين منهم” أسألهم عن غوته و شيلر و نيتشه. أسكرُ مُنصتاً بأحاديثهم عن كُتّابهم.
يا إلهي! هؤلاء المشرّدون العامّةُ يعرفون ويحفظون كلَّ شيءٍ عن أدبائِهم، أقارنُهم بعامّة السوريين الذين لم يسمعوا بمحمد الماغوط و سعدالله ونوس.
خذلتُ الشعرَ الذي يَوَدُّ ما لا أودُّه حتى وصلتُ إلى حافة يَودُّ الشعرُ ما أودُّه.
الشعرُ رفيقي، وحبّذا لو كان رفيقَ الناس أجمعين.
*خاص بالموقع