حالما توقف قصف الطائرات ، هرعنا الى الأبنية المنهارة ، نبحث عن ناجين من جحيم الساعات المنصرمة ، كانت طائرات (النظام) قد حولت هذا الحي من حرستا الى كتل متراكمة من اعمدة اسمنتية محطمة ، وجدران متهاوية ، وسقوف متهالكة ، تبرز من بينها قضبان حديدية ملتوية ، السنة لهب هنا ، اصوات انفجارات هناك ، ومن بعيد كان هدير الطائرات لا يزال يهدد بالانقضاض في اي لحظة
السكان عادة يلجؤون الى الأقبية اسفل كل بناية ، لحماية انفسهم من قصف الطائرات والصواريخ ، لذلك فقد هرعنا الى مبنى كبير ، في اسفله قبو يرزح تحت كتل ضخمة من الاسمنت المسلح المنهار ، استطاعت فرقة الانقاذ فتح كوة في سقف احد الأقبية ، ولأن الكوة كانت صغيرة نسبياً ، فقد استطعت وحدي بجسمي النحيل ان احشر نفسي فيها ، كان القبو مظلما تماماً ، بمصباحي الصغير وجدت شيخا كبيراً تحت عمود اسمنتي ، كان قد فارق الحياة ، وغير بعيد عنه عثرت على طفل تفحصته تحت ضوء المصباح ، وادركت انه يتنفس
رفعته ، احتضنته ، جريت به نحو الكوة التي دخلت منها ، وسلمته لأيدٍ امتدت لتمسك به وعدت ابحث بين الأنقاض ، لحق بي آخرون ، قالوا لي ان ابو زهير يطلبني على وجه السرعة ، خرجت ، قال ابو زهير محتدا :
– ديبو .. دع مهمةالانقاذ ، واذهب الى وحدة الاخلاء مع سامي وجواد ، وتدبروا امر المصابين هناك ، كانت نقطة الاخلاء تضم اربعاً من الضحايا ، ورجل مصاب مستلقٍ على نقالة ، وجهه مغطى بالدم ، كذلك عنقه وقميصه ، والى جانبه كان الطفل الذي وجدته في القبو ، كان قد تكوم بلا حراك بجانب النقالة .
كان الطفل في الرابعة من عمره ، بحثت تحت ثيابه عن اصابة ما ، وباستثناء بعض الجروح الصغيرة ، وبعض الكدمات والسحجات ، لم تكن تبدو عليه اية اصابة ما ، ولكني اذ لاحظت صعوبة تنفسه ، تلمست صدره ، فتبين لي ان القسم الأيمن من قفصه الصدري مضغوط قليلا ، كما لو ان ثقلا قد هبط عليه .
قال الممرض ان لا ادوية للعلاج لديه ، وكل زجاجات الدواء والحقن قد تحطمت تحت الأنقاض ، وتابع كالمغلوب على أمره ، كل ما لديه هو هذين الصندوقين المحطمين من اربطة شاش مشبع بالتراب.
سألته برجاء
– أليس عندك بعض الماء ..؟
قلب كفيه بحيرة ، ثم استدرك قبل ان أغادر .. اسمع ، لدي عدد قليل من امبول السيروم ، صغير الحجم ، هل يفي بالغرض ..؟
تلقفت ثلاثة منها غير مصدق ، كسرت الرأس المدبب لأحدها من الجهتين ، قربتها من شفتي الطفل ، أفرغتها في فمه ، فعلت ذلك مرة أخرى ، وأخرى .
نفضت قطعة شاش مما يغطيها من تراب ، ووضعتها بحرص على فمه وانفه ، لأحميه من هذا الغبار الخانق والدخان المخيم على المكان
عينا الطفل كانتا تحدقان بي ، دون اي رد فعل ملموس .
ضحكت له .. ربتُّ على خده ، سألته عن اسمه ، عن عمره ، كانت عيناه قد تسمرتا عليّ ، لم يكن يبكي ، لم يكن يصرخ ، لم يكن يتأوه ، ولم ترتسم على وجهه بادرة ألم ، فقط كان يحدق في وجهي ، قمت بحركات مضحكة بيدي وفمي وعيوني ، قلدت اصوات طيور وقطط ، أخرجت له لساني الجاف ، ولكن وجهه ظل جامدا ، وظلت عيناه عالقتان بعيني .
كان بكاؤه -لو بكى – سيخفف من وطأة اللحظات عليّ ، كنت سأقول هو طفل يتألم ويبكي ، وقد خبرت ذلك كثيرا ، اما ان لاتبدر عنه بادرة خوف او ألم ، هذا ما كان يخنقني ويرمي بي الى حافة عجز لا يطاق ، كنت اشعر انه باستسلامه المطلق ، قد رمى بكل مصيره على كاهلي .
صرخ سامي :
– لقد اخبرونا الآن ، قالوا ان سيارة اسعاف واحدة بقيت سليمة ، وانها ستكون بانتظارنا في النقطة الطبية التالية .
حمل زميلاي المصاب على النقالة وحملت الطفل ، كان علينا ان نمشي ساعة على الأقل ، لنصل الى النقطة الطبية التالية .
واصلت هرولتي الى جانب النقالة ، بحيث لا اؤذي الطفل بحركتي ، وظللت خلال ذلك احادثه وابتسم له .
هل تعرف اسمي ..؟ انا ديبو ، وقد حشروني في وحدة الإخلاء لست ادري لماذا ، مع اني مدرس فنون ، كنت احلم دائماً بأن آخذ ادواتي واخرج بها الى هذه الغوطة ، وان ابدع لوحة تشكيلية ولا أروع .. انظر اين اوصَلَنا اولادُ الكلب .. كان يجب ان تكون انت في روضة اطفال جميلة ، زقزقتك تملأ الآفاق .. كان يجب ان تكون بين احضان والديك ، تنعم بالدفء والأمان ، ولكن ذلك لم يرضِهم ، ألم اقل لك انهم أولاد كلب .. نعم اولاد كلب .
وصلنا النقطة الطبية ، كان حولها كثير من المصابين وكثير من الباحثين عن مفقودين ، بكاء عال ، نحيب خافت ، تأوهات ، دعوات ، شتائم ، فتح الناس لنا الطريق ، دخلنا خيمة صغيرة يبدو انها اقيمت على عجل ، محشور فيها ثلاث طاولات خشبية عارية للكشف الطبي ، وعلب كرتونية مهروسة ، وضعت الطفل بين يدي الممرض كان الطبيب الوحيد منهمكا مع مصابين آخرين ، كنت منهكا ، جلست على الأرض قليلا .
قال الطبيب وهو يجس صدر الطفل باهتمام :
– اصابته داخلية ، ونفتقر الى الادوية والادوات .
بصعوبة بالغة ادرت وجهي عن عيني الطفل العالقتين بي ..
خرجت من الخيمة ، انظر الى فضاء مشحون بالدخان والغبار ، اشعلت السيجارة نفسها للمرة الثالثة ، اغمضت عيني ، اصوات مختلطة ظلت تقرع مسامعي ، بكاء مفاجئ من مكان ما ، اصوات طلقات متقطعة من بعيد ، اسندت رأسي الى قطعة اسمنتية بجانب كتفي ، واغمضت عيني ..
قالت لي امي مواسية :
– نِعمة يا ابني .. نعمة ، هاي صرت استاذ يا ديبو ، وانشالله ما بتخلص السنة ، بكون خطبتلك سعاد بنت عمتك .. لاتدير وجهك ابني ، انا حاسة فيكون من زمان يا أمي .. سعاد طيبة وبنت حلال ، وانشالله بتتهنو سوا .
خنقته الغصة على أمه ، انتشلوا جثمانها من تحت الأنقاض قبل سنتين ، اما سعاد فقد نزحت مع امها الى الحسكة ثم القامشلي ، ثم انقطعت أخبارها ..
احدهم يربت على كتفي
– ديبو .. ديبو .. هل انت نائم..
قلت بضيق :
– لا .. لست نائما..ماذا تريد ؟
كان الممرض طلال ..
قال بصوت هامس :
– الطفل في الخيمة يشير ، كأنه يطلبك .. هل هو يخصك ..؟
مرت لحظات طويلة قبل أن ألملم شتات نفسي ، وادرك ما يقول ..
صرخت بصوت عال :
– يطلبني …!!
رميت السيجارة ، وقفزت كالمجنون .. اشق طريقي نحو مدخل الخيمة .
المانيا – بوخم