على غلاف “كيوم مشمس على دكة الاحتياط”، كتاب مازن معروف الصادر حديثاً عن دار “نوفل” في بيروت، يُذكر أن العمل “مجموعة قصصية”. والحال أن القارئ، وهو ينتقل من قصّة إلى قصّة، يجد نفسه أمام نصوص مفتوحة، نصوص ذات بدايات ونهايات وقوام وبنية بالطبع، لكنّها ذات سَرَيان متشابه، ومتقاطع ومتوازن، في نفس الوقت.
إنها قصصٌ تحملها موجة واحدة. نخرج من القصّة وندخل إلى أخرى، ونبقى على النَفَس والمجرى ذاتيهما. بل يتراءى لنا كذلك أننا لا نزال في نفس اللعبة، ونفس المدّ، ونفس الخيال. يتراءى لنا أن ما يسميه الكاتب قصصاً، وما نُشر على أنه قصص قصيرة، هو في حقيقة الأمر نماذج لقصص كبيرة. بل إن واحدة من هذه القصص، “ملاك الرز بحليب”، تحوي فصولاً ثلاثة. تسلّمنا قصّة إلى قصّة، ونحن لا نزال في الشعور بأننا لم نغادر تماماً، وبأن شيئاً من النصّ يبقى وينتقل معنا، حتى لا نكاد نحسّ، ولو من بعيد، بأننا ما زلنا في النصّ نفسه، وأننا أمام ما يشبه أن يكون رواية واحدة.
إذا كان لنا أن نقارن “كيوم مشمس على دكة الاحتياط” بنص آخر، يتبدّى لنا أنه سيكون “أليس في بلاد العجائب”. المقارنة جائزة، لكنّها لا تعني التأثُّر، أو النسج على غرار. لا تعني بالطبع الاقتباس أو المحاكاة. نستذكر “أليس في بلاد العجائب” لأن ما يسوق النص هو، بالدرجة الأولى، خيالٌ حرّ ومجّاني.
في العملين ننتقل من الصورة إلى مقابل غريب، في نوع من الارتجال التخييلي، نوع من سياحة مجّانية. يمكننا هكذا أن نفكّر بالشعر، بل يمكننا أيضاً أن نفكّر بخيال بلا حدود. مازن معروف هكذا يقفز من الصورة إلى أختها. بل هو، وبشكلٍ موازٍ، يقفز من الصورة إلى ضدّها، إلى أبعد ما يكون عنها، لكن بقدرة على أن يجعل منها موازياً ومرادفاً. الجمع بين الشتيتين ينتهي هنا إلى شيء ثالث، ينتهي إلى مساحة وإلى حيّز جديدين. إنه خيالٌ يلعب في نفسه، خيال على خيال، وصورة من صورة، وابتكار من الشيء وضدّه.
يمكن أن نجد الخيال مقصوداً حتى هذه الدرجة، أي أن يتحوّل إلى موضوع وإلى مسألة بحدّ ذاتها. هذا ما يحيلنا إليه نص مازن معروف، بل هو هكذا يقترح على الخيال ما يتجاوزه، ما يأتي أمامه وبعده. يقترح على الخيال ما يبدو جنوناً له. حين نقرأ، على سبيل المثال، الشخص وهو يسمع في رأسه ما يدور في فكر الآخر، ويكون هذا طلباً لأن يقتل هرّاً في البستان. حين نقرأ ذلك في سياق متتابع متّصل، من أمور مماثلة، لا نتعجّب منه، فمازن معروف استطاع، من قبل، أن يأسرنا في لغته وأسلوبه وخياله الخاص. لكنّنا سنتعلّم من نص معروف أن نغنّي في خيالنا، كما سنتعلّم منه أن نسخر في خيالنا، وأن نخترع وأن نلعب. إنها عناصر متعالية وخفية وداخلية، تتحوّل، في نصه، إلى أدوات ومواد، إلى أشياء وعناصر وأفعال.
هكذا، على سبيل المثال، نقرأ كيف يلعب بالأحلام والأصوات والمشاعر. لنقف قليلاً عند الأحلام، سنجد كيف يمرّ الواحد في حلم الآخر، كيف يتحوّل هذا إلى مهنته: أن يستضيف في حلمه الشخص الذي، لأعجوبة ما، لا يحلم، ولا يستطيع أن يحلم. من هنا تخرج قصة.
هناك أيضاً هؤلاء الذين يتناقلون الأحلام ويتبادلونها. الحلم هكذا يتحوّل إلى ما يكاد يكون واقعاً، إنه حلم متحرّك، متحوّل، فاعل وخلّاق. هكذا نجد العناصر كلّها متكلّمة، متحوّلة، فاعلة، ويتحوّل الخفاء إلى أسلوب وحقيقة ومادّة. هكذا يمكن أن نسبح من قصّة إلى قصّة على الموجة ذاتها، نصل أحياناً إلى خيال بحت. نصل إلى رواية من اللاحقيقي، من اللامعلوم، من الفكرة ووهمها، والإحساس وضدّه، بل من الكلمة والخيال. من حلم بحت وفكرة حيّة متحرّكة وحقيقة من المجهول.
*العربي الجديد