“العائلة التي ابتلعت رجالها” عنوان رواية ديمة ونّوس الصادرة عن “دار الآداب” يكاد يوعز بخلاصة للرواية، بل يكاد يوعز بمعنى خاصّ لها، إذ إنّنا لدى قراءة الرواية لا نجد للرجال الحاضرين في العنوان سوى حضور شبحي، بل هو حضور من وراء النساء أو من خلالهن. الرواية هي بالكامل رواية نساء، وما تعنيه بالعائلة هو هؤلاء النساء، وهن ينحدرن جيلاً بعد جيل عبر ثلاثة أجيال، الجدّة أوّلاً والأمُّ ثانياً، وإلى جانبها أختها ثم الراوية وبنتا خالتها.. شغف ونينار. نحن هنا أمام ثلاثة أجيال من نساء هنَّ وحدهن شخصيات الرواية، بحيث إن هذه لن تكون سوى مونولوغاتهن، سوى ما يصادفنه في حيوات تنتقل بين عدّة بلدان، سورية أوّلاً ودمشق بخاصة، وبيروت في لبنان، ثم لندن في الأغلب.
الشخصيات النسائية قيد تحليل يشمل شخصياتهن أوّلاً، ولكنه يطال تفاصيل في تنقُّلاتهن وفي يومياتهن، ولو أنّنا نقف أمام مصطلح اليوميات بحذر، فالأغلب أنّ النسوة يتعرّضن لتحليل عمودي يتوزّع أحياناً على يوميات وأحداث، لن تكون عابرة إلّا لتتقاطع مع الشخصية ومع التحليل العمودي. أمّا الرجال فهم الذين يمرّون في حيوات النساء، إنهم بوضوح ما تراه النساء. لسنا نجد لذلك للأب – وهو أبرز الشخصيات الرجالية – ما يمكن اعتباره شخصية، ولسنا نجد له تحليلاً شاملاً ولا نقع على تناقضاته وصراعاته الداخلية، إلّا بقدر من الإلماح. حتى في هذه الحال فإن هذه التعارضات مرئية في الغالب من قبل الأم، وفي التواجه معها.
الأمر نفسه يطال الرجال الذين يمرُّون من وراء الخالة وابنتيها. لكلّ من هؤلاء حياة ولكلّ منهن ذات ونفس عامرة بالتناقضات والصراعات. لكلّ منهن هذه النفس الضاجّة المنفعلة المتصارعة، ولكل منهن بالطبع وراءها رجل وأكثر. الرجل هو جزء منها ومن حياتها، ولا تكون له حياة أو نفس إلّا بهذا المعنى. لذلك قلّ ما نغوص في شخصيته، وقلّما نجد له سيرة خاصة. قلّما نجد له حياةً خارج المرأة التي هو وراءها، وقلّ ما يكون له وجود مستقلّ لا يرجع إليها.
أبرز ما في رواية ديمة ونّوس هو هذه القدرة على التحليل. التحليل الذي هو أيضاً بناء للشخصية، وهو بهذا المعنى ملحمة هذه الشخصية وإنشاء لوحة متكاملة لها. لوحة من تباينات وتفاوتات وتعارضات جميعها لا تلبث أن تنحلّ في أسلبة وفي نحت لغوي، في قدرة على التوليد تقارب الغناء الشعري، بل تقارب أحياناً الشعر نفسه. يمكننا أن نعثر أثناء قراءتنا على نفحات وإشراقات ولمعات تستوقفنا فعلاً. إننا بالتأكيد أمام صنيع أدبيّ مجتهد، أمام أدب فعلي، حقله ومسرحه هما هذا التحليل السيّال الذي هو في الغالب قوام النص وبنيته.
تستطرد ديمة في هذا التحليل، بل يبدو هذا التحليل مادّة الأدب، بل مادّة لعبة هي قدرتها على اللعب باللغة، في قدرتها على أن تزاوج بين استدعاء الصور، بين التوليد البلاغي، وبين القدرة على رصد المشاعر وإيجاد لغة لها، والاسترسال في ترسيمها وتفصيلها، والوقوع على تبايناتها ودقائقها ولمعاتها. لربما كانت رواية ديمة ونّوس هي هذا التحليل، الذي هو في نفس الوقت عمل لغوي وفكري، بقدر ما هو نفسي.
من هنا يمكننا أن نعثر في الرواية على إشراقات تدمج البلاغي بالجوّاني بالشعر. نفهم هنا، من ناحية ما، ما يحيل إليه العنوان، “العائلة التي ابتلعت رجالها”، فالذي ابتلع الرجال وطردهم من العائلة هو النصُّ أولاً، هو اللغة، التي غدا الرجال فيها في رتبة المضمَر وغير المعلوم، في لاوعي النص. الرجال في وجودهم في خلفية النص وفي لاوعيه مبتلَعون من اللغة، مبتلَعون من التحليل. إنهم هكذا في خانة الغائب والمتواري. الرجال هكذا خارج النص وداخله، إنهم الظلال التي تتحرّك أمام العائلة النسائية. الظلال التي، مع ذلك، تتحرّك من بعد وتعكس، من هذه المسافة، ما يبدو في النهاية حياة ومصائر تُجسّدها النسوة، كأن النسوة يتلقين، من بعيد، هذه الإدارة لمصائرهن، ومن بعيد أيضاً يصارعنها ويبتلعنها.
نفهم ما في هذا العنوان من نسوية مضمرة. ليس العنوان وحده بل الرواية كلّها انتصار للنساء، انتصار هو بثمن فادح لا يكون الانتصار بدونه، ثمن ليس أقلّه النهايات التعيسة، التي الموت أحدها. النساء يبتلعن الرجال لكنهن في ذات الوقت يدفعن كبطلات جريحات، من حياتهن ومن مستقبلهن، ثمن هذا الانتصار.
*العربي الجديد