ستهل الشاعرة فريال بشير الدالي ديوانها «محاولة لصفِّ ازدحام» الصادر منذ سنوات عن مجلس الثقافة العام الليبي، بطابورين أولهما إهداءات أولى، وهي تهدي ديوانها هذا إلى أبيها/ وطن الحنان، وإلى أمها/ مَوَاطِن الصبر، وإلى راياتها المتسامقة: حسام الدين، حاتم، عليّ، علاء الدين، محمد/ رجالاً للوطن. أما الطابور الثاني فتسميه: توصيف.. قد؟ وفيه تعبر عن علاقتها بفعل الكتابة ومراسمها اللامعتادة:
رطبة لحظات الكتابة
تشي بنشوة ولادة عصية
الحرف الجامح..
يرتجف أمام كلماتي
والعالم
يرقص على بنْس الآه.
انسجام تام
أما القصيدة الأولى في الديوان فتجعل الشاعرة عنوانها ليبيا، وفيها تصور الشاعرة، بإحساس متدفق ولغة نقية ورائقة، ليبيا/ الوطن ككائن حي تتفاعل معه ويتفاعل معها، ويبقيان هما الاثنان معاً في وضع انسجام تام، لا تعكر صفوه أي شائبة:
متنامية الأطراف
تستلقي في دعة..
على مروج قلبي
بأزهارها..
الدائمة التفتح
تنبت في النظر
عشقاً بلون الأزل
لتمتد إلى ما بعد الأفق..
ثم ترى الشاعرة ليبيا/ الوطن وهي القلب الكبير الذي يحتوي الجميع بين أحضانه ويُربّت على أكتافهم ويجعل من ترابه وثراه فضاءً متسعاً لهم وبهم يعيشون فيه كما يحلو لهم:
أيها القلب الكبير:
أما زال فيك متسع لي.. أنا
فأنثر فيك همومي المتصاعبة؟
ليبيا:
عشتِ لنا.
لقد عبَّرتْ الشاعرة هنا عن العلاقة ما بين الوطن والمُواطِن أفضل تعبير، وما أجمل هذه العلاقة حينما يسودها الحب والود وتكتنفها الألفة والتناغم. ما أحلى أن يعيش الإنسان فوق ثرى وطن يحبه ويعشقه بصدق!
حنين دائم
وفي القصيدة التي حمل الديوان اسمها والتي تهديها إلى حنينها الدائم وأظنه الشعر/ القصيدة إن لم يكن محبوباً آخر، في هذه القصيدة تعبِّر الشاعرة عن صلة ما تربط ما بينها وبين شياطين الشعر، التي ربما تلد خواطرها، أو على الأقل توحي بها إليها:
تقاطرت عليّ شياطين الشعر
ترثي انكبات خواطري
فتذرف الحنين أملاً مسعوراً..
يشعل اللحظة بوجد الفراق
وألم عناق بعيد.
ثم إن قلمها أصابته الجراح في ما ينشد الورق نزيف انكباتها، ولهذا فهي ستصفُّ ازدحامها طوابيرَ! وحين تختزل الغربة حنين الشاعرة الدائم الذي يمكن أن يكون حبيباً بشرياً، أو حبيباً من نوع آخر إن لم يكن هو الشعر/ القصيدة يناهزها الوله فتتخيله، غير أن الحقيقة تلكزها، ثم تتساءل:
ماذا
لو أطلقت جمهرة مشاعري
الهاتفة بك
وبذرت النجوم
التي اغترفتها من الـ (هاتين)
في صدر الكون
ولونتها بومضة جمعتنا
كانت هي الأولى؟
أيضاً تصف الشاعرة نفسها بالنخلة المغروسة في زمن الحب حين تختزل الغربة حنينها الدائم.. تلك النخلة تراود النجوم عن نفسها..
تفتح صدرها لرصاص الوقت..
ترقص
على أنفاس حنينها كانبناء حلم..
تكبكبه الوحدة
كتلة من نعيم يتلظى!
ومن الملاحظ في هذه القصيدة أن الشاعرة تولي اهتماماً واضحاً بمفردات لا يكثر الآخرون استخدامها، غير أنها على الرغم من هذا، وظفتها بمهارة داخل أسطر قصيدتها الشعرية، من هذه المفردات: انكبات، مجروح، بدلاً من جريح، انكتابي، اعتمال، تلكزني، كانبناء، تكبكبه.
لغة موسيقية
وفي لغة رومانسية هي أقرب إلى الموسيقى من الشعر تخط الذات الشاعرة (تفاعل) التي تناجي فيها محبوبها الذي أقفلت كل قطرات دمها على اسمه، بينما يقيم القلب مباهجه لأنه فاض بحبه له:
سماني الهوى
فرسه
والسماء:
طفلتها المائية
فأهدتني الأرض مدارها.
ومن القصائد المكتملة البناء في هذا الديوان قصيدة هجرة التي تُساوي فيها ما بين الانتماء إلى المحبوب أياً ما كان والوطن اليوتوبي:
الانتماء إليك = وطناً يوتوبياً
يستقر في الذات
يتنقل بين طقوس الوقت
يدشن مشروعاً آخر.
كذلك لا تقل قصيدة أحلمك جمالاً عن هذه القصيدة:
حين تبخر الفارس
انتحر الحصان
فسقط الليل مغشياً عليه
واستقال
الواقع من الجمال
الآن لأحلمك!
وترسم الشاعرة في قصيدة تأبين صورة حية تنبض بالحياة الشعرية لبعض القصائد التي تتقدم، وهي تحني ظهورها حاملة رايات العجز بين الثكإلى لتؤبن سكَّر المعنى المحترق في بوار الروح! وهل ثمة من إجادة في التصوير أكثر من هذا؟ وفي قصيدة بؤر تنسج الذات الشاعرة علاقة ثلاثية بينها وبين المحبوب من ناحية وبينها وبين الزمن من ناحية أخرى:
عندما تشتعل اللحظات
ينطفئ الزمن
أبحث عن بقيته
أقتات
بفتات الأيام!
أرمم الوقت
لأنشغل عنك!
وتعبّر كذلك عن آلامها التي تمارس سطوتها عليها أحياناً في قصيدتها من ملامح الطالع:
الزمن يتمادى
المكان ينحسر
واحتقان الحزن
صراخ أخرس
يبتلعني في جوف الآه.
قصائد الومضة
في هذا الديوان تلجأ الشاعرة إلى كتابة بعض القصائد القصيرة التي اصطلح على تسميتها بقصائد الومضة، وهي تمتاز بقصرها الشديد، لكن دون إخلال بالمعنى، بل مكتملة البناء اللفظي والشعري، خاصة وهي ترتكز في الأساس على التكثيف والحذف عوضاً عن الإضافة. ومن قصائد الومضة هناك ثلاث قصائد جاء مكانها في آخر الديوان، وقد أحسنت الشاعرة صنعاً إذ فعلت هذا، خاصة أن هذه القصائد الثلاث من أجمل قصائد الديوان، ولن أُعلِّق عليها حتى أدع القارئ يستمتع بقراءتها بعيداً عن أي مؤثرات خارجية:
بؤر
في غمرة الحنين
ترتدي الروح
ثوب اللهفة
فلا تخلعه
ولا يبيد!
عطش
قطرة لا تروي
وعلى شواطئ اللحظة
دموع.. شامخة
لا تسقط
ولا تستكين!
(3) صفحة
كادت تدمع
(السماء)
لكن نزيف اعتصامي
لحس عن خدها الفريد
قطر البداية!
*القدس العربي