لم يكن محتوى الفيلم الوثائقي الذي بثته قناة الجزيرة قبل أيام، وحمل عنوان “حفار القبور”، مفاجئاً من ناحية الحقائق التي يعرفها السوريون، وإن كان العنوان المأخوذ من إحدى قصص جبران خليل جبران هو الأنسب لما حمل في مشاهده المرعبة على لسان الشاهد الذي امتهن حفر القبور الجماعية، لكن ليس بالفأس والرفش، إنما باستخدام آليات لم يتسنَّ لحفار القبور في رواية جبران أن يستخدمها، إذ كان عمله تطوعياً بنصيحة من ذلك المارد الذي فاجأه في الوادي، ليدور بينهما حوار غيّر كل مفاهيم الرجل وحياته. أما حفار القبور في رواية الجزيرة، فكان تابعاً لسلطة الإله السوري بشار الأسد، الذي تشابه في بعض الجوانب مع من سمى نفسه الإله المجنون في رواية جبران.
واقعيّ الاعتقاد بأن يردد الأسد، وكل المجانين على مر الزمان، ما ردده ذلك الإله المجنون في الرواية الأصلية: “في الصباح أجدّف على الشمس، وعند الظهيرة ألعن البشر، وفي المساء أسخر بالطبيعة، وفي الليل أركع أمام نفسي وأعبدها… أنا والزمان والبحر لا ننام، لكننا نأكل أجساد البشر، ونشرب دماءهم، ونتحلى بلهاثهم”.
عمل حفار القبور، الشاهد على مذابح الأسد، منذ العام 2011 وحتى نهايات 2018، معتقداً في بداية عمله أن الجثث التي تأتيه ليدفنها كانت لمجهولين ماتوا في الشوارع، ثم عرف أنها لمعتقلين قُتلوا في مراكز الاحتجاز التابعة لأجهزة النظام الأمنية.
يتشابه القضاة والأمراء والأحكام
في رواية جبران الثانية “صراخ القبور”، تربّع الأمير على عرشه، ووقف الناس أمامه بين متفرّج أتى به حب الاستطلاع، ومترقب ينتظر الحكم في جريمة قريبه، وجميعهم قد حنوا رقابهم، وخشعوا بأبصارهم، وأمسكوا أنفاسهم.
بعد عقود، تربّع قاضي محكمة الميدان في دمشق في محكمته المكونة من غرفة في مبنى الشرطة العسكرية في دمشق. لم يكن هناك من يقف من الأهالي وينتظر محاكمةً علنيةً لابنه، ليراه حياً للمرة الأخيرة، بل تم جلب المعتقلين مكبّلين، يجثون ورؤوسهم تكاد تلامس الأرض، وينتظرون أن يُعرضوا على القاضي، الخصم والحكم في آن معاً، ليُمنعوا من الكلام، ويسمعوا التهم الموجهة إليهم فحسب، ثم يعودون من دون أن يعرفوا أن أحكام إعدامهم قد صدرت، ليُعدموا في حفلات الموت الجماعية في أقبية سجن صيدنايا.
ربما كان الأمير في رواية جبران أكثر عدلاً، وعلى الرغم من أنه لم يسمح للمعتقلين بالكلام، إلا أنه سمح لذويهم برؤيتهم قبل موتهم، وأمر برمي الجثث ليقوم أصحابها بدفنها بشكل لائق لاحقاً، فقد صدر الحكم بقطع رأس الشاب الذي قتل أحد قادة الأمير خلال تجواله بين القرى، وصدرت أحكام بالموت على مئات المعتقلين الذي قالوا لا لنظام الأسد.
قُطع رأس الشاب، وشنق المئات من السوريين، وسُحبت جثة الشاب ورُميت في البرية، ونُقلت جثث السوريين بسيارات لنقل اللحوم في رمزية تشير إلى أنهم ليسوا أكثر من حيوانات في نظر النظام، ليُدفنوا في حفرٍ فوق بعضهم في مقابر جماعية تختلط فيها جثثهم.
لم يبادر الشاب الذي قُطع رأسه إلى الاعتداء على القائد، إنما أراد القائد سلبه حبيبته وخطيبته التي أعجبته، فدافع عنها، وعن شرفه، والسوريون الذين شُنقوا في صيدنايا، لم يعتدوا على الأسد، إنما طالبوا بحقهم في الحرية والعيش بشرف.
كان حظ الفتاة كبيراً، إذ حفرت قبر خطيبها بيديها، ودفنته، لتزوره متى أرادت. ومن سوء حظ السوريين أنهم لم يحفروا قبور أبنائهم، ولم يدفنوهم ولا يعرف أحدهم في أيٍّ من تلك الحفر العميقة في نجها، جثة ابنه.
أي الإلهين أكثر عدلًا؟
كانت جثث المعتقلين في سجون النظام تأتي مُرقَمةً من دون أسماء، وكانت الروائح المنبعثة من سيارات نقل اللحوم كفيلةً بأن يشمّها المارون في الشارع، ويعرفوا أنها لأشخاص ماتوا بشكل رهيب. كانت الجثث تتكدس مرةً كل أسبوع، وكان لا بد من دفنها والخلاص منها، فهي تؤذي الطبيعة والناس، ولكنها لا تؤذي حفار القبور الذي واظب على دفنها ثماني سنوات، وهو يعرف كيف تأتي، وهي لا تؤذي السجانين والمحققين وإلههم المجنون القابع في قاسيون.
هذا بينما ينصح الإله في رواية جبران ذلك الرجل بأن يمتهن حفر القبور كمهنة تريح الأحياء من جثث الأموات المكدسة حول منازلهم ومحاكمهم ومعابدهم. نعم فالسوريون في سوريا باتوا جثثاً، وإن كانوا أحياء. هم يرتعشون أمام عاصفة الحياة، “وعاصفة النظام”، فيراهم الإنسان أحياءً، ولكنهم أموات منذ الولادة.
ترى هل ينجب السوريون أبناءهم ليختفوا في مقابر جماعية، لا يعلم أحد منهم أي الجثث تعود لابنه؟ هل لو عرف مسبقاً أن هذا سيحصل لفعل بما أشارت إليه رواية جبران على الرجل، بالزواج بإحدى بنات الجن؛ “لو كان بإمكانك أن ترى الجنّية، أو تلمسها، لما أشرت عليك بزواجها… فلهذا الزواج نفع بطيء، ينتج عنه انقراض المخاليق والأموات الذين يختلجون أمام العاصفة، ويسيرون معها”.
معظم المهن في بلادنا يرثها الأبناء عن آبائهم، حتى حفر القبور. هناك كثيرون ممن ورثوها عن آبائهم بعد دفن هؤلاء الآباء، لكن هل أورث حفار قبور النظام مهنته لأبنائه؟ ربما لو كان له ولد شاب لأخذه ليساعده في إنجاز عمله، والحصول على مكافأة هي على الأقل ألا يرى ابنه يوماً في سيارة نقل اللحوم.
لا بد أنه يحتاج إلى من يساعده، فالأموات كثيرون، وهو وحده لا يستطيع دفنهم. فلو قدر أن يسلّم كل معتقل ميت لأهله، لرأينا مئات الناس يمسكون الرفش ويحفرون القبور للَحْدِ أبنائهم، وكأنه الدفن بعد وباء عظيم.
مقبرة نجها التي تبعد عن دمشق 44 كم، باتت تحتضن الآلاف من جثث المعتقلين. دُفنت الجثث فيها على عمق ستة أمتار، وأنشئت فوقها مقابر لعامة الناس، لإخفاء معالم الجريمة.
نظام المقابر
هناك تساؤلات يطرحها كل من فقد أحد أبنائه في سجون النظام ومقابره، حدّث بها جبران نفسه عندما أذهله صراخ القبور: سفك الدماء محرّم، ولكن من حللها للأمير؟ سلب الأموال جريمة، ولكن من جعل سلب الأرواح فضيلةً؟ وفي أي جيل من الأجيال سار الملائكة بين الناس قائلين: احرموا الضعفاء نور الحياة؟
مرت سنة، وتلتها أخرى، ولم يعرف أهل المعتقلين ما حلّ بأبنائهم، ولم يجرؤ معظمهم على السؤال عنهم، ففي السؤال جريمة قد تقود بالسائل إلى إحدى مقابر نجها الجماعية، “والطليق أبقى من المعتقل” كما حاول أحدهم استحداث مثل يناسب ما يجري في سوريا.
الكثيرون اليوم ينتظرون أن يظهر حفار قبور جديد، وقيصر آخر، علّهم يعلمون من خلاله ما حل بأبنائهم. هم يعلمون يقيناً أن أبناءهم قُتلوا، ولكنهم سيشعرون بالهدوء حين يعرفون أن التراب ضم ما بقي منهم.
هل للسوريين في يوم ما أن يقفوا فوق قبور أبنائهم مؤبّنين ذكراهم، يتلون على أرواحهم قرآنهم وصلواتهم، أم هو القنوط الذي تنبّأ به جبران، يضعف بصيرتنا فلا نرى غير أشباحنا الرهيبة، وهكذا يصم اليأس آذاننا فلا نسمع غير دقّات قلوبنا المضطربة؟
(رصيف 22)