كثير من السوريين حصلوا على الجنسية الألمانيّة، وكثير من الباقين سيحصلون عليها خلال السنتين المقبلتين، وقبلها أصبحت الجالية السورية من بين أكبر الجاليات فيها. ورغم أن ألمانيا لا تسمح بازدواج الجنسيّة، إلا أنها سمحت للسوريين، كما بالنسبة لبعض رعايا الدول الأخرى التي تمنع التخلي عن جنسيّتها الأساسية، بالاحتفاظ بجنسيّتهم السوريّة إن أرادوا عدم التخلي عنها، عند التقدم للحصول على الجنسية الألمانية.
ومن بين المزايا الكثيرة لهذا الأمر، هنالك ميزة السفر إلى كثير من دول العالم من دون مراجعة سفاراتها للحصول على الفيزا. وحرية السفر هذه مريحة، فيمكن للشخص أن يسافر في أي وقت يشاء، وكذلك أن ينتهز فرصة وجود عروض رخيصة لقضاء العطل خارجًا، أو إذا حدث أمر طارئ يتطلب السفر خلال ساعات.
بكل الأحوال، يوجد في استمارة الطلب الخاص للحصول على الجنسية الألمانية سؤال يستعلم فيه إذا كان مقدم الطلب يرغب في التخلي عن جنسيّته الأم، وبالتالي يكون ألمانيًا كاملًا إذا جاز التعبير، أم يريد الاحتفاظ بها.
في مدينتي الصغير الواقعة جنوب ولاية هامبورغ، يوجد موظفون جيّدون في مكتب الأجانب الذي ينظر في طلبات التجنيس. موظفون عمليون ويتصرفون بودّ مع مقدمي الطلبات. وعندما ذهبت لتقديم طلبي وتوقيعه وتقديم كافة الوثائق المطلوبة، قابلني مدير المكتب. وكان هذا اللقاء هو الأول بيننا، لأن الموظفة التي تواصلت معها هاتفيًّا كانت في إجازة في ذلك اليوم.
مدير المكتب شخص هادئ، ويتحدث بصوت منخفض، وكأنه يحدّث نفسه. يذكر نوع الوثائق التي بين يديه وكأنه يتفاجأ بها. لذلك يبقى أحدنا متابعًا لشغفه وتفاجئه المستمرين.
ذلك السؤال حول التخلي، أو الاحتفاظ بالجنسية، يجب الإجابة عليه هناك في مكتب الأجانب، وكذلك التوقيع على تلك الإجابة، وجميع الأوراق المطلوب التوقيع عليها.
سألني الموظف إذا كنتُ أريد الاحتفاظ بجنسيّتي السوريّة. وكان جوابي بالإيجاب.
نظر إلي برهة من الزمن. أربكني صمته ونظرته الغائمة في وجهي.
قال لي: لنترك الأوراق جانبًا، ونتحدث كأصدقاء.
هل هنالك مشكلة؟ سألته.
لا، لا. قال لي. ثم أضاف: من حقك الاحتفاظ بجنسيتك الأصلية، أو التخلي عنها. ولكن أريد أن نتحدث قليلًا، لو كان لديك وقت، كأصدقاء. وفي النهاية ستوقع على طلب احتفاظك بجنسيّتك السورية. ولكن في الحقيقة هنالك شيء ما أثار تساؤلي.
ما هو هذا الشيء؟
لقد اطلعت على ملفّك، وكل الوثائق فيه من حين قدومك إلى ألمانيا، وانتبهتُ إلى أمر هو أن السلطات السورية منعتك من الحصول على جواز سفر سوري لسنوات عدة.
صحيح. كان ممنوعًا عليّ الحصول على جواز سفر من عام 2007 حتى عام 2010، ولم أكن أعرف ذلك. في عام 2010، تلقيت دعوة للإشتراك في مهرجان شعري في فرنسا. وكان جواز سفري منتهيًا. فذهبتُ إلى مكتب الهجرة والجوازات لتجديد جواز سفري. وقدمت الوثائق والطوابع والمبلغ المطلوب. ولكن الموظف طلب مني مراجعة أحد فروع الأمن، لأنه توجد برقية منهم بمنعي من الحصول على جواز السفر لحين الحصول على الموافقة منهم. وضع الموظف العسكريّ أوراقي وجواز سفري القديم في أحد الأدراج، وقال لي بأنني سأستطيع متابعة طلبي هذا إذا حصلتُ على موافقة من ذلك الفرع الأمني.
وما هو سبب ذلك المنع؟
ربما لأنني كنت أعمل في مجال حقوق الإنسان. كنت أعمل ضمن منظمة سورية تنشط في نشر الوعي عن ثقافة حقوق الإنسان، وفضح الانتهاكات. عملت فيها منذ عام 2000 إلى عام 2006 وقت تقديم استقالتي.
وهل تسمح لي أن أسألك عن سبب تقديم استقالتك؟
لقد سألني ضابط في فرع الأمن السياسي سؤالك هذا نفسه. وأنا تفاجأت بسؤاله ذاك، خاصة أنني أرسلتُ استقالتي عبر الإيميل لرئيس تلك المنظمة قبل يومين من استدعائي لفرع الأمن السياسي. وقلت في نفسي إما أن يكون إيميلي مراقبًا، أو إيميل رئيس المنظمة، وإلا كيف عرفوا بأمر استقالتي. وهذا انتهاك كبير واختراق مخيف من قبل الأمن السوري الذي له سوابق مريعة مع الناشطين السياسيين، أو المدنيين. وقلت له بأنني قدمت استقالتي لأسباب شخصية تتعلق بي وبعملي في المحاماة، ولم أقل له الأسباب الحقيقية لتلك الاستقالة.
هل أستطيع أن أعرف تلك الأسباب، خاصة أنه مضى زمن طويل على ذلك؟ سألني الموظف في مكتب الهجرة.
أعتذر منك. أريد الاحتفاظ بذلك لنفسي. قلت له.
حسنًا. وهل حصلتَ على تلك الموافقة للحصول على جواز سفر جديد؟
لا، أبدًا. ذهبت إلى الأمن الداخلي في العاصمة دمشق. وطلبوا مني الذهاب إلى مدينة القامشلي، التي تبعد عن مدينتي 85 كيلومترًا، للتحقيق في فرع الأمن العسكري.
لم أتحدث للموظف في مكتب الهجرة عن الرعب الذي انتابني في قبو ذلك الفرع. فقد وضعني أحد المحققين في غرفة من ذلك القبو، الذي تعلو سقفه تمديدات المياه الصدئة، وذهب ليحضر إضبارتي. بعد وقت قليل، سمعت دخول شخص إلى غرفة مجاورة. وبعدها بلحظات لحق به شخص يرتدي الثياب العربية البدوية. سمعت الأول، ويبدو أنه محقق، يسأل ذاك الشخص عن سبب تخلف “عزة الدوري” عن موعده، وعدم استلام الأسلحة التي أرسلوها له. رد الشخص الآخر بلهجته العراقية الواضحة بأنهم ارتابوا بوجود كمين من القوات الأميركية التي كانت تبحث عن الدوري، ووضعت مكافأة كبيرة للقبض عليه، أو قتله.
شعرتُ بالرعب. إذ أن حوارهما يتضمن أسرارًا عسكرية وأمنية دولية. وإذا اكتشفوا أنني موجود هنا، فإنهم قد يتخلصون مني، خاصة أن المحقق كان يحقق بغضب عن نائب الرئيس العراقي، وكأنه يتحدث عن موظف لديه!! سعلتُ مرات عدة، فجاء ذلك المحقق إلى الغرفة التي أنتظر فيها. فسألني بغضب عما أفعله هنا. فقلت له بأنني أنتظر التحقيق في طلب حصولي على جواز سفر. فشتمني وشتم زميله المحقق، وشتم جوازات السفر. ثم سألني إذا كنت سمعت شيئًا من الغرف الأخرى. قلت له بأنني سعلت حتى ينتبه أحد ما لوجودي هنا. فأنا كنت أظن بأنه لا أحد هنا. ولكنني فعلت ذلك لكي يتذكرني المحقق، وننتهي من الأمر. فأمسك بياقتي وسحبني خارج القبو، وطلب مني الوقوف هناك حتى مجيء “الحيوان ابن الزانية”!!
ماذا يقولون في هذه المواقف؟ تنفست الصعداء؟ شعرت بأنني أنقذتُ حياتي بسعلتين أو ثلاث، متخليًّا عن فضولي لمعرفة ما جرى بعد ذلك بين المحقق وأحد شيوخ العشائر العراقية.
قلتُ للموظف في مكتب الهجرة بأن التحقيق معي استمرّ ثلاث ساعات، وبأن ملفي كان يحمل لون الأزرق النيلي، وهو أحد الألوان المفضّلة لديّ. وبأن الملف كان يحتوي قصاصات لمقالاتي التي نشرتها في صحف لبنانية وعربيّة كان يُمنع دخولها إلى سوريّة، ولكنها كانت تصل إلى فروع الأمن.
بعد ذلك، كان عليّ المثول أمام العميد رئيس الفرع. وكان عنده أحد الإعلاميين المعروفين، والذي أصبح في ما بعد من المعارضة السورية. سلّمت كذلك على ذلك الصحافيّ، وقدمت عزائي له بوالده الذي توفّي قبل فترة قصيرة. سأله العميد:
هل تعرف الأستاذ؟
قال له: نعم. ثم أضاف بأنني من عائلة معروفة، وبأنني كاتب وشاعر ومحام. ولكن هنالك صفة سلبيّة فيه.
التمعت عينا العميد، وسأله عن تلك الصفة. فقال الإعلامي: للأسف، إنه يعمل في مجال حقوق الإنسان!!
من جهتي، ضحكت. وقلت له بأنني لوهلة شعرت بالرعب؛ ظننت أن تلك الصفة السلبية قد تكون بأنني حرامي، أو فاسد، أو مخبر، أو قوّاد… ولكن هذه أول مرة أعرف بأن العمل في مجالات حقوق الإنسان شيء سلبيّ، وربما جريمة، في عرف شخص يعمل في الإعلام، وسيصبح، في ما بعد، معارضًا لنظام يرى العمل في حقوق الإنسان جريمة!
قال لي العميد بأنه سيوافق على حصولي على جواز سفر خلال يومين. عدتُ إلى البيت، ولكن مرت سنة وأكثر من دون أن أحصل على ذلك، وفاتتني تلك المشاركة، ودعوات أخرى من خارج سورية.
ومع ذلك، تريد أن تحتفظ بجنسيتك السورية التي منعتك كذلك من التوظيف في القضاء، وفي السلك الدبلوماسي. قال الموظف في مكتب الهجرة.
نعم. أريد ذلك.
ولكن لماذا؟
هل تحمل جنسية أخرى؟ سألتُ الموظف.
لا. أنا ألماني فقط.
إذن، لن تشعر بالحرج مثلي. يومًا ما سأسافر إلى خارج ألمانيا وأنا أحمل جواز سفر ألماني. في أحد المطارات سينظر موظف المطار في جواز سفري الأحمر، ويرى مكان ولادتي: “الحسكة”. ولا بد أن تعرف بأن هذه الـ “ال” اللاحقة باسم مدينة يدل على مكانها في المنطقة العربية. مثل الرقة، الموصل، العمارة، الزرقاء، القاهرة، الإسكندرية، القدس، الخرطوم، الدار البيضاء، الجزائر… وسيسألني مباشرة: هل أنت ألماني بالفعل؟ عندها سأشعر بالحرج. ليس من جنسيتي الألمانية، بل من جنسيتي السورية التي تدلّ عليّ أينما ذهبت. إذا قلت له بأنني ألماني فقط لأحصل على التسهيلات، سأشعر وقتها بأنني جرحت طفولتي وجيراني وأصدقائي والذين تبقوا من أهلي في البيوت، أو في المقابر. وكذلك معلماتي العانسات في المدارس، والناس البسطاء والنساء القرويات الضعيفات، بل حتى سأشعر بأنني جرحت ذلك الهواء المستعمل والسام الذي كنتُ أتنفسه هناك. ولا أعرف إذا كان سيساعدني إذا قلتُ لموظف المطار بأنني سوري أحمل الجنسية الألمانية.
ستجرح جنسيّتكَ السوريّة؟
نعم. فهي تعني الأشياء التي ذكرتها، وما يشبهها. ولا تعني النظام الذي دمّر كل سورية، ولا رجاله الذين قتلوا وسمّموا كل شيء. إنها شيء آخر يشبه ابتسامتكَ هذه. وابتسامتك هذه تذكرني أكثر بأنني كردي كذلك. وانظر الآن أنت إلى الأمر، حتى ككردي أشعر بأنه ليس من الجيد أن أتخلى عن جنسيّتي السورية. لا أعرف. هنالك شيء يشبه هبوط ضغط الدم عندما أفكر في ذلك.
إذًا، يا صديقي عليك أن تعرف بأن جنسيتك الألمانية ستحميك في كل مكان. إذا حصلت معك مشكلة في أي دولة، وإذا تم القبض عليك، عليك أن تطلب مباشرة تدخّل سفير ألمانيا في ذلك البلد. إلا في سورية، فإذا تم توقيفك هناك فلن نستطيع التدخل أبدًا. هناك ستكون سوريًا فقط، بسبب احتفاظك بالجنسية السورية. وللأسف لن نستطيع مساعدتك، أو حمايتك.
قال ذلك وهو يعطيني القلم لكي أوقّع تحت بند احتفاظي بالجنسية السورية.
امتدّ الصمتُ بيننا. لا شيء مميزًا في هذه الغرفة من الطابق الثالث سوى صورة زوجة مع الأولاد على شاطئ البحر. لذلك نظرت من الشباك وكان الهواء يحرّك الستائر الرمادية اللون. وتذكرت تلك الصديقة التي ما إن وصلت إلى ألمانيا حتى صارت تسعل وتسعل. قالت لي بأن ذلك ربما بسبب الهواء؛ إنه نظيف جدًا، ويبدو أن رئتيّ تفاجأتا بذلك. يلزمنا وقت لكي نتعوّد. أو ربما لكي لا ننسى.
(ضفة ثالثة)