كيف يُكتب التاريخ وطبقاً لأي منهجية قديماً وحديثاً؟ هناك العديد من الإصدارات المترجمة المهتمة بوضع اقتراحات مفيدة برأيهم، للكشف عن التواريخ الماضية والحديثة.
في كتاب “أصول التأويلية” لجورج غوسدروف، يطرح تاريخاً زمنياً لولادة التأويل المتمثل بالجهد غير المسبوق الذي تولته مكتبة الإسكندرية قديماً، مستعرضاً عملها وعمل العاملين فيها، حيث يصورهم كرهبان المعرفة وحكمائها، ذلك لسعيهم الدؤوب لأجل البحث عن أعمال تسبق نشوء المكتبة نفسها بقرون طويلة وغائرة في الزمن. إذ كان عملهم مُنكباً على الإهتمام بهذا الإرث وتأويله من دون أن يساور القيمون على المكتبة آنفة الذكر أي شك في مصداقية ما يُأولونه أو يأرشفونه، خصوصاً أنه، كما ذكر الكاتب، استحصلوا على أعمال بعيدة منهم زمنياً لسبعة أو ثمانية قرون. وهي كانت تتناقلها أجيال بعد أجيال، وكان الجميع يُعدّل فيها أو يزيد عليها، كل طِبقاً لذائقته الفنية…
ولتأكيد الشكوك حول ما نقول، فإن المفكر الفرنسي بول فاين، استفاض في كتابه “هل اعتقد الاغريق بأساطيرهم” في ذكر الفروق في كتابات التاريخ لناحية المنهجية، خصوصاً متى ما عرفنا أنّ المؤرخين كانوا يقومون بمهمتهم في التدوين، من دون الالتفات الى المصادر، وكانوا يلتقطون ما يجري من أحداث وفنون في زمنهم شفوياً، وغالباً ما كان المؤرخون الجدد يضيفون الى كتب التاريخ لمؤلفين سبقوهم ما استجد من أحداث، أو يزيلون بعض الأحداث التي تخص أشخاصاً لا يَودون ان يُذكروا في كتب التاريخ…
وكان هناك رأي شائع لدى المؤرخين أن لسمعتهم وصدقهم الفضل في جعل رواياتهم عما جرى ماضياً وحاضراً محل ثقة في جودة ما يصنعون حتى من دون مصادر، لأن ذِكرَ المصادر عادة مرذولة، وهذه الكتب هي نسيج للحكايات عن الآلهة ومجريات الأحداث التي شاركت فيها، الأمر الذي دعا بول فاين الى الإشارة إلى بعض المحاولات التي استمرت موضع نزاع بين الفلاسفة والمفكرين، وكل له رأيه فيها، مثل أن رمزية الأساطير أخلاقية، أو أنها مجرد أوهام وخرافات. هذا الجدال الذي امتد طويلاً لم يصرفوا النظر عنه إلا بسبب ظهور المسيحية كدين جديد، عندها ارتاحوا من نزاعهم حولها.
أما التاريخ في القرون الوسطى، فله صورة أكثر جدلية. فطبقاً لبول هازار في كتابه “أزمة الوعي الأوروبي”، يقول أن المؤرخين كانوا يؤلفون كُتباً تاريخية من بنات أفكارهم، ذاكراً مثلاً عن أحد المؤرخين وكان حينها يؤلف كتاباً عن حصار مالطا، وعندما أتى مساعدوه بالوثائق الخاصة بهذا الحصار، صرخ فيهم بأعلى صوته قائلاً: لقد فات الأوان فقد أنهيت الحصار على مالطا. هكذا كان يكتب التاريخ قديماً، وبالتالي يُرسَم سؤال: هل توجد حقيقة ما في التاريخ؟ أم أن الشعور بالحقيقة هو من الرحابة بحيث يحضنون الأسطورة بارتياح في الحقيقة، لكن الحقيقة تعني أشياء كثيرة الى درجة أنها تشمل الأدب التَخيِّلي (بول فاين)..
في العصر الراهن، ثمة مدارس مختلفة لكتابة التاريخ، مثل مدرسة تترك الأحداث تتكلم عما حصل، وأخرى تستخدم السرد لرواية القصة (هايدل واين). وثمة اهتمام أثاره بول ريكور في كتابه “الزمان والسرد” بأجزائه الثلاثة على جاري عادته، كما ذكر في كتابه “الذات عينها كآخر” من أنه عندما يقرر البحث في مسألة ينوجد لديه طريقان ليثبت براهينه في نقاشها، طريق قصير وطريق طويل، ومع انهما يوصلانه الى النتيجة ذاتها، إلّا انه يحبذ الطريق الطويل، لذلك تأتي كتبه مطولات وأجزاء متعدّدة، وذلك كي يفي الموضوع حقه في النقاش، ولكي يرد سلفاً على أي إعتراض ممكن ان يأتي من لَدَن بعض قرائه.
لكن أنّى له أن يعرف أين ستكون اعتراضات بعض قرائه، فمهما كان حريصاً، لا بدّ وأن تأتي أسئلة وجيهة من القراء ومن مكان لا يتوقعه، فمهما كان مُتنبهاً ومتاكداً من براهينه وأسانيده، ففي مطلق الأحوال لا بدّ لنا من ذكر عبارة كارل بوبر “أن أي نظرية جديدة لا تحمل في طياتها ما يقضي عليها بعد حين لا يُعول عليها أو ليست علمية بما فيه الكفاية”. فإلى متى ستصمد نظرية ريكور “في أن الزمان كي يصبح إنسانياً، لا بد له أن يسرد في قصة جيدة الحَبك”؟
*المدن