عائشة بلحاج: هيّا إلى مملكة الأنوثة

0

“عزيزتي، لنشد الرّحال عبر سفينة الإتيكيت، إلى سفر ممتع نحو مملكة الأنوثة. سنوقظ تلك الأنثى النائمة بداخلك.. سنسهر على الاعتناء بالروح الأنثوية. في الأسبوع الأول، شاطئ دستور الأنثى، وشاطئ أغذّي الأنثى الصغيرة بداخلي، ثم شاطئ الأنثى الراقية، وشاطئ أنثى بلمسات رقيقة. .. تذكّري أن الجمال عابر، لكن الجاذبية ترافقك مدى الحياة، وفي كافة الظروف، وبـ 1000 درهم فقط. ماذا تريد المرأة أكثر من ذلك؟” .. نعم ماذا تريد المرأة أكثر من ذلك؟ وإلّا سنعدّها جاحدة للنّعم، أمام هذا العرض السّخي. هذه ليست قصة ساخرة، بل هي إعلان حقيقي في شبكة الإنترنت، لدورة “مملكة الأنوثة” التي تعِد المتقدّمات إليها بكل ما سبق مقابل ألف درهم مغربي (مائة دولار).
على الفور، حضرني فيلم “زوجات ستيبفورد” (The Stepford Wives)، بطولة نيكول كيدمان، ويحكي قصة آلة تُحوّل المتعبات من العمل والاعتناء بالبيت والأطفال، والمقصّرات في حق أزواجهن، إلى نساء لامعات بالغات الجمال و”الأنوثة”. يكفي أن تدخل إحداهن آلة عجيبة، لتخرج منها وقد أصبحت نسخة أخرى من نوع واحد من النّساء، يستجيب لمواصفات الجمال الجسدية من شعر مسرّح، وخصر مشدود وصدر بارز، وشفاه منتفخة، إلى مواصفات الشّخصية “الأنثوية” من الوداعة والطاعة، إلى التهذيب والاعتناء الشديد بحاجات الزوج والأولاد.

في هذه النماذج، لا مكان للمرأة العاملة أو الطموحة، أو المختلفة أو صاحبة الطبع المستقل. لهذا تجد “جوانا” (نيكول كيدمان) التي كانت تشغل منصبا مرموقا في محطة تلفزيونية، بينما يشغل زوجها أعمالا إدارية متوسطة الأهمية، قبل أن تُصاب بانهيار عصبي، نتيجة الضغوط في العمل، وتقدم استقالتها، ليرحلا معا إلى بلدة ستيبفورد. وفي نهاية الفيلم، تعود بعض النساء إلى حقيقتهن، ويخرجن من القالب، فهن لم يكن لحظةً حقيقيات، وهذا وحده ما تحتاجه المرأة؛ أن تكون إنسانة حقيقية، لا نموذجا جماليا أو سلوكيا أو نسخةً من إعلان رخيص لباعة الوهم. هؤلاء الذين صاروا يدخلون النساء العربيات إلى آلتهم القبيحة، لإخراج نماذج عجيبة من الجمال النسوي. ويكفي أن تفتح معظم التلفزيونات العربية، لتفاجئك مذيعاتٌ وممثلاتٌ في هيئة “زوجات ستيبفورد” أو أسوأ. في شهر رمضان الماضي، أثارت ممثلات في مسلسلات عربية دهشتي، حين قمت بجولة خاطفة فيها، وأنا أسأل نفسي: هل فعلا هناك من يشاهد هذه الكارثة؟ هؤلاء النساء اللواتي لعبت المشارط بوجوههن، لا نعرفهن. إنهن حتما لسن من مجتمعاتنا، ولا من واقعنا. ربما نزلن إلى الأرض بالباراشوت للتصوير، ثم يعدن إلى كواكبهن. هل ثقتهن بأنفسهن مهزوزة إلى هذه الدرجة، ليسمحن بهذه التحوّلات التي ضحك عليهن بها أطباء دجّالون؟ وأي نوع من الناس تشاهد هذه الكوارث الدرامية؟
عمليات التجميل تقدم لنا نساء متشابهات؛ يتم إيهامهن أنهن ما لم يمتلكن شفاها وخدودا منفوخة، وأسنانا بيضاء، وبشرة مشدودة، وذقنا بارزا يطلق عليه “ذقن نفرتيتي”، وآخر موضة في الحواجب (حواجب البومة). ولا تنسى الصدر الناهد والمؤخرة البارزة؛ ما لم يمتلكن هذا كله، فهن ذميمات ويفتقدن “أنوثة”.

زادت ظاهرة “اليوتوبرز” و”الميك آب أرتيست”، والنجوم المزيّفة التي تتقاسم هوسها بالمظهر والمال مع ملايين المتابعين الذين يسحرهم لمعان هذا النوع من الحياة. تقدّم لنا قطيعا من نساء (ورجال بنسب أقل) مسلوبي الإرادة. إنهن دِلاء فارغة تمتلئ بالهواء الذي يُقدّم لهن، ولا يتطلب منهن التفكير أو العمل الجدّي. إنها جنّة الكسل الباذخ، حيث ليس عليك أن تفعل شيئا سوى أن تستعرض ما تملكه، وما لا تملكه مع آخرين، حتى جسدك وخصوصياتك. فهناك شركاتٌ كبرى مستعدّة لأن تقدّم لك فرص ترويج منتجاتها، إذا استطعت تسويق المنتج الذي تملكه مسبقا، أي جسدك.
تصبح، مع الوقت، فأر مختبر، تجرّب فيه الشركات آخر ما اخترعته، لجعله فأرا مطيعا لتعليماتها، وجزءا من قطيعها الذي ترمي له بما اخترعته، فيسارع إلى استهلاكه بعماء مطلق. نستحضر، هنا، الصفوف الطويلة أمام الشركات المصنّعة للهواتف عندما يتم طرح جيل جديد من منتوجاتها، حيث يتوقف مئات في مراكز التسوق الكبرى التي بدأت تغزو حتّى البلدان الفقيرة، من أجل أن يكونوا أول من يتلمّس المنتج الجديد، من دون أن يكون هناك تفكير في سخافة الموقف. ما الذي سيضيفه لك أن تكون المستهلك رقم واحد؟ ألّا تنام إلّا والهاتف الجديد في حضنك؟

تبقى النّساء الضحايا الأكبر لهذا التّسليع، على الرغم من إقبال عدد متزايد من الشباب على القيم الاستهلاكية، ومواد التّجميل، من حلاقة وماكياج وأزياء. وفي حالتهم، لا تُسوّق لهم الشركات “الرّجولة” في علب ومواد كيماوية، بل تعِدهم بالجمال والتفرّد فقط، لأنّ المجتمع العربي يربط الرجولة بالخشونة والصّلابة مسبقا، وهذه أشياءُ لا تباع في محلات ولا تصنع بمشارط الجرّاحين. ولكن بما أنّ الأنوثة مرتبطة بالضعف، والمظهر المتكلف وبمقاييس جسدية معيّنة، يسهل بيع الوهم للنساء. بينما الأنوثة مثل الرجولة تصنعها المواقف من مروءة وصدق وشجاعة، وهي كذلك لا تُباع، ولا تُلوّن، ولا تقاس بالأحجام.
“زوجات ستيبفورد” في الأصل رواية نشرت سنة 1972، للكاتب الأميركي إيرا ليفن، وتحوّلت إلى فيلم سنة 1975، ثم أعيد إنتاجه سنة 2004. الرواية عن سكانٍ جدد لإحدى البلدات في الضواحي، يلاحظون أن الزوجات في منتهى الخضوع والطاعة لأزواجهن، ويكتشفون أنّهن روبوتات آلية من صنع الأزواج. والغرض من تحويل الزّوجات إلى روبوتات تقبلهن حياة الضواحي الرّتيبة، وترك الأزواج لهن فترات طويلة للعمل في المدينة، مع التحلّي بالطاعة المطلقة وتنفيذ الأوامر. لتضيف نسخة الفيلم لسنة 2004 ميزة أخرى، جعل الزّوجات مثل نجمات الإغراء في الجمال والجاذبية، مع تحويلهن إلى نموذج ربّة المنزل الماهرة والمحبوبة، على شاكلة نموذج الزوجة الذي كان سائدا في أفلام دوريس داي في منتصف القرن الماضي، ليصبح مصطلح “زوجات ستيبفورد” جزءا من الثقافة العامة، للإشارة إلى الزّوجات الخاضعات.

*العربي الجديد