ظل الأصابع

0

لبانة غزلان

كاتبة سورية

مجلة أوراق- العدد 17-18

أوراق القصة

مع تسلل خيوط الضوء الأولى، يجر عربته إلى مكانها في سوق الخضار، رب العمل في انتظاره، وقد اشترى البضاعة. يرتب عصام ذو الأحد عشر عاماً خضاره على البسطة الصغيرة، مستمعاً لتوصيات “أبي توفيق” التي يحفظها عن ظهر قلب، وبلا اهتمام يسجل نشرة أسعار اليوم على ورقة كي لا ينساها. لم يسبق له أن ناقش “أبا توفيق” في أسعاره، فما شأنه بذلك إن كانت أجرة يومه لن تتغير، كسيف إكسكاليبور المثبت في صخرة، تمر عليه الأيام برتابة قاتلة، ولا وجود لآرثر ينتشله من وضعه التعيس ذاك، بعد فقدانه عائلته ومنزل طفولته، ونزوحه إلى مكانه الجديد، وحيداً غريباً.

ينهي أبو توفيق موال الصباح -كما يحب عصام تسميته – بوجوب بيع البضاعة كاملة، وإلا فإنه لن يتمكن من دفع أجرته لهذا اليوم، فيستشيط عصام غضباً، ويصيح في وجه رب عمله: لكن من سيشتري بهذا السعر يا أبا توفيق؟ دون النظر في عينيه، يجيبه أبو توفيق بصرامة من يخفي جرحاً: فليشترِ من يملك المال، سأبيع كما اشتريت، لا أحتمل مزيداً من الخسارات. ويغادر مودعاً.

بلّل عصام خضاره بالماء، مستقبلاً تحيات الباعة في هذا الصباح البائس من مطلعه، وسرعان ما غرق السوق الشعبي بالازدحام والضجة، ليمضي النهار دون مبيع جيد، وقد أعياه الجدال مع الزبائن على سعر هذا وذاك، وكأنه هو من رفع سعر الدولار، أو  سقى الزرع بماء الذهب فسبب ارتفاع تكلفته، أو ربما أشعل دون قصد حرائق حقول القمح. والمسكين لم يفعل أياً من ذلك، لكن الناس التي سامت بضاعته أنزلت عليه التهم بزخم، كما الماء الذي يرشه على خضاره بكثافة ليبقيه نضراً، ويحميه من حر النهار، ليعود إلى منزله بمعدة خاوية وبلا مال.

توالت الأيام المريرة على عصام، حيث بدأت أجرته بالتقلص والتضاؤل يوماً بعد يوم، بالتزامن مع شيء آخر ازداد حجماً، وهو ظل أصابعه. الظل الذي يعرفه يتشكل من حجب جسم ما للضوء، فيظهر له ظل معتم بشكل الجسم نفسه وبحجمه أو أكبر بقليل، أما ظل أصابعه النحلية الهزيلة هذه، فيبدو غريباً، ويفوق حجم يده بأضعافٍ، والأغرب أنه يزداد بمبالغة كلما قرقعت معدته طلباً للطعام، كما أنه لا يظهر في الأماكن المشمسة فقط بل في الظليلة والمعتمة أيضاً، كحال غرفته المتواضعة ذات المصباح المعطل، فكثيراً ما استيقظ ليلاً، على صوت معدته الخاوية، ولاحظ ظل أصابعه شاخصاً رغم العتمة.

وكعادته في عدم الاكتراث، لم يُعرْ أمر ظل أصابعه هذا اهتماماً كبيراً، برغم فضوله حوله، منشغلاً عنه بالعمل الجاد علّه يوفق ببيعٍ وفير، فيسد رمقه، ويخفف عنه قساوة هذا العالم. وذات يوم وهو عائد من سوق الخضار، يجر عربته بجهد مضنٍ، استوقفه مشهد الشوكولا الملونة الشهية بردائها الأحمر، في واجهة أحد (المولات)، كثيراً ما أثارت اهتمامه هذه الأسواق بواجهاتها الزجاجية، وبضائعها المغلفة المرتبة في رفوف تغطي ثلاثة أو أربعة طوابق، على عكس سوق الخضار، الذي يستوي فيه الجميع، وتنشر بضاعته بعشوائية على عربات مصفوفة تغطي مساحة السوق، وتتجاوزه نحو الشارع العام بغوغائية واضحة. وبينما كان يتأمل أصابع الشوكولا اللذيذة تلك بشهية، كأي طفل آخر، امتد ظل أصابعه ليحجب الضوء عن كامل واجهة المبنى وازداد، ازداد، ازداد حتى غطى طوابقه الثلاثة العالية، خفق قلب عصام ذعراً، وهرع مهرولاً إلى غرفته، ناشداً أن لا يمر بهذا المول أو غيره في المستقبل.

لم ينم جيداً تلك الليلة، وفي الصباح أسرع لعمله المعتاد، متناسياً أمر ظل الأصابع هذا في زحمة السوق وأصوات الباعة، ورائحة خضار الأمس التالفة، وكاد يظن أن ما حصل معه في الأمس محض خيال، إلى أن حضرت أمامه سيدة برفقة ابنها الصغير، تعاين الخضروات، وتسأل عن سعر البصل، فيجيبها وعينيه مركزة على الطفل، الذي يتناول بنهم البوظة سائحة من الحرارة، ويلف لسانه حول العبوة، لتلقف سيل الشوكولا المحشوة بمكسرات وحلوى مجففة، وإذا بظل أصابعه يلف العبوة ويتحرك مع حركة يد الطفل إلى فمه، نظر إلى يده مذعوراً، فوجدها تضع البصل في كيس وتغلقه، وتناوله للسيدة غير المنتبهة، إلا أن عينا الطفل الصغير أحست بظل أصابعه، فأمسك بطرف رداء أمه يشد انتباهها إلى الظل. شحب وجه عصام، وجمد الدم في عروقه. فأسرع في التخلص من السيدة، التي جاءها اتصال وغادرت على الفور. بينما بقيت عينا الطفل المندهش معلقة على عصام إلى أن ابتعد.

تنفس عصام الصعداء، وارتخى على كرسيه المعدني خلف البسطة، شرب رشفة ماء، ونظر بقلق حوله، متسائلاً عن سبب ظهور هذا الظل، دون أن يجد دماغه الصغير سبباً مقنعاً، فيتناسى الأمر، ويعود لجدال زبون جديد، إلى أن انتهى هذا اليوم الشاق، وكالعادة، لم يوفق في بيع الكمية كاملة، فالأسواق الفقيرة للمدينة في ركود، وأغلب مرتاديها يسومون البضائع ولا يشترون، بات كل شيء يفوق قدرة الناس على الشراء، حتى الليمون الذي كان يبيعه بكثرة ذبل على العربة، وجف عصيره من حرارة الشمس ولم يشتره أحد. وهكذا تتالت الأيام، والظل يظهر ويغيب في حالات عديدة لا يجد لها عصام أي تبرير، ويحمد الله على ازدحام السوق واكتظاظه بالباعة، وانشغال الناس بأمور الحياة اليومية، والجدال حول غلاء الأسعار، بدلاً من الانتباه لظل أصابعه.

إلى أن أحرجه ظل أصابعه مرةً جديدة، حين قدمت سيدة أربعينية ترتدي عقداً ثميناً، وقد صار سوق الخضار مقصداّ حتى للأغنياء وميسوري الدخل، وبينما هي تعاين الخضار لتتأكد من جودته، وجد ظل أصابعه يطوق عنقها، ويمسك بالعقد ويهزه محاولاً افلاته. ارتعدت أوصال عصام، وازرق ووجهه، وبدأت يداه بالارتعاش، خوفاً من أن تلحظ السيدة ظل أصابعه، وتتهمه بمحاولة سرقتها، وضع يديه خلف ظهره، والظل لم يتحرك، رفعهما للأعلى والظل لم يتحرك، نظر حوله علّه يجد شيئاً آخر يشد انتباه الظل، فيترك العقد وشأنه، لكن جل ما رآه، وجوه متعبة ومثقلة بالهموم. فشلت جميع محاولاته لإبعاد ظل أصابعه عن العقد، ولم يترك له سوى فرصة صرف السيدة، قبل وقوع المصيبة، فنهرها بغضب وحسرة: ليس لدينا شيء للبيع كل هذه الخضار مباعة، نظرت له بامتعاضٍ، ورحلت تتمتم بشتائم عدة لم يلقِ لها بالاً.

لملم بضاعته مسرعاً، وعاد إلى منزله أبكر من المعتاد، فور وصوله غرفته، رمى كل ما يحمله أرضاً، وضع يديه أمام وجهه بحنقٍ واضح، تأملهما بحسرة، قبل أن يصرخ فيهما: ما الذي تريدان مني فعله؟ كيف لأعضاء في جسد عصام أن تخذله، إن كان لابد من قطعكما فسأفعلها بلا تردد، أتسمعان؟ أمسك سكيناً بيد، واضعاً حرفه على الأخرى، بخجلٍ يستدرك عجزه عن قطع الاثنتين معاً، فيهدأ انفعاله، ويفكر إن قطع إحداهما فكيف سيجر العربة في الغد، ألا يكفيه أنه يتيم ويعمل أجيراً.

تسقط السكين من يده، ويصيح باكياً أباه، كيف أمكنه أن يكون قاسياً هكذا! كيف استطاع تركه وحيداً! وإن كان عليه تركه، فلمَ أسماه عصام؟ فحمّله فوق الهجر، ما لا طاقة لطفلٍ بسنه على حمله، ثقل الاسم والنسب لأب عصامي عزيز النفس، في عالم يتوج اللصوص ويجعلهم أسياداً. أسئلة كثيرة أرهقت رأس عصام، قبل أن تقاطع قرقعة معدته الخالية من الطعام انفعاله الحاد، فتُسقِط عنه كل ثوابته الأخلاقية، معدة جوفاء ملتصقة بظهره لشدة الجوع، كانت أقوى من كل ما تربى عليه. ليرتمي بلا حراك على الأرض ويغفو مستنزفاً.

في الصباح لام نفسه على تحميل والده، ذنب برميل سقط دون إرادة منه، فحصد العائلة والمنزل ونصف الحارة، وأفلته وحده من الموت دون قصد. لبس حذاءه المهترئ وانطلق إلى عمله بوجهٍ كالحٍ، يوم بائس آخر، لا حركة في السوق، وجوه الباعة لم تعد توحي بشيء، حتى بالتعب، قلوبهم صماء بكماء كأحجار البازلت، وأحاديث يتناقلونها هنا وهناك، عن عقوبة جديدة، حكم قيصري أو قانون لقيصر، شيء من هذا القبيل تناهي إلى مسامعه، ولم يعره أي اهتمام، منتظراً انصراف “أبو توفيق” بالسلامة، ليبدأ روتين يومه في الانتظار العبثي لشيء مبهم، زبون ربما، أو كارثة تحيل السوق إلى رماد، أي شيء قد يكسر ثقل هذا اليأس المطبق.

وما هي إلا ساعات قليلة، حتى سمع صوت جمهرة تصدح من بعيد، تشق عباب الصمت، مر الجمع الغفير من أمام السوق رافعين لافتات، لم يتيقن مما كتب عليها، لكنه أيقن وقعها في نفوس الباعة، فوجوههم قد اختلفت كلياً، ربما بدت أكثر راحة وابتهالاً وهم يطالعون المسير المهيب لشباب يصرخون ويهتفون سلمية، سلمية….

شارداً كالأخرين في هذا الموكب، يقاطعه جاره، وهو شاب يكبره بقليل، وتجمعه بعصام علاقة سطحية لكنها ودودة بالعموم، فعصام يتحاشى قدر الإمكان الاختلاط بالأخرين، سائلاً عن رحيله الباكر بالأمس. وجد عصام في داخله حاجة ملحة للحديث لشخص ما عن كل ما يعانيه، ولكن كيف لهشام وهو ابن المنطقة أن يصدقه، ربما سيتهمه بالشروع بالسرقة، أو أن نواياه ستقوده في نهاية المطاف لفعلها، فيحشد ضده كل من في السوق، كما فعل يوماً، حين اتهم على العلن أهل المناطق المجاورة بالإرهاب، واستحث حمية  كل من يسمعه زبائناً أم باعة، لتحليل دمائهم، مطلقاً الشتائم هنا وهناك، والجماعة من حوله تتخبط بين المؤيد والمعارض، يذكر عصام جيداً الرعب الذي انتابه وهو يراقب بقلق ملامح هشام الحادة، متظاهراً بأنه منشغل في ترتيب خضاره، مستشعراً الخطر في كونه غريباً عن المنطقة، ويفكر بالهرب قبل أن يتأزم الوضع أكثر، لولا تدخل أبو يوسف، الملقب بمختار السوق، وهو  رجل ستيني معروف، لفض الجمع، والاستشهاد بأمثلة حية لمكارم أهالي الجوار ومحاسنهم، موبخاً هشام بصوته الرخيم الهادئ كصوت الحق، لتهدأ نفوس الجموع الهائجة، ويعود السوق إلى طبيعته.

ومن يومها وعصام يشعر بالأمان طالما أن أبا يوسف مختار للسوق، ويتحاشى التفكير بفكرة رحيله أو موته لا سمح الله، فمن سيحمل راية الفكر المعتدل إلى هذه السوق المشحونة بالغضب من بعده، يصيح به “هشام” من جديد ويقطع سلسلة أفكاره تلك: ما بك يا “عصام”، هل كل شيء على ما يرام؟ يرد عصام بعد أن قرر عدم الافصاح عما في داخله باقتضاب ويقول: لا شيء كل الأمور بخير، لكنني دهشت لمشهد الموكب، لينفجر “هشام” ضحكاً مؤكداً، أنهم مخربون يسيرون إلى حتفهم، وسترى، ثم يكمل بنبرة أقل ثقة، وأكثر حزناً: في هذه البلاد تأخذ حقك بالسلاح فقط.

يثير المنحى الذي توجه له حوار هشام قلق عصام، وهو لا يريد الانخراط في أي سجال سياسي، يكفيه مشكلة ظل أصابعه التي لا يعرف لها حلاً، فيعلق بعبارة (الله يهدي البال) المتداولة، ثم يتظاهر بالانشغال برش خضاره بالماء، لينصرف “هشام” مودعاً.

يعود عصام إلى نفسه، فيجد أن مشهد مرور الشباب الهاتفين، قد ترك في نفسه هو الآخر أثراً طيباً، رغم أنه لا يبالي بما يدور حوله، لكنه في لحظة ما شعر بأن حنجرته ستنطق بشعار ما من شعاراتهم. تردد بعد أن راقت له فكرة صراخه بشعار ما، ثم ما لبث أن ساوره القلق وعاد للتفكير بمصيبته.

لم يبع شيئاً هذا اليوم، وعاد إلى منزله خائباً كالعادة، ليحمل له طريق العودة، شاباً أرعناً يرمي بنصف شطيرة كاملة في حاوية على قارعة الطريق، متابعاً سيره بلا مسؤولية تذكر، قرقعت معدة عصام معلنة حالة الجوع المستمر منذ أشهر، نظر حوله مستطلعاً. كان الشارع خالٍ إلا من القطط، سارع لالتقاط الشطيرة من القمامة، قبل أن تسبقه القطط إليها، وصل الحاوية، وقبل أن يهم في التقاط الكيس، صوت داخلي أنبه: أستأكل من القمامة الآن يا عصام؟ أهذا ما آلت إليه حالك؟. أوشك أن يعرض عن الأمر، ليمسك ظل أصابعه بالكيس، ويرميه إلى حيث القطط. عندها أصدرت معدة عصام نفيراً جعل أوصاله تترعد، فجرى مسرعاً، وانتزع الشطيرة من فم القطة، نظر حوله من جديد لشدة حرجه، لم يشاهد أحداً وضعها على العربة، وهرول مسرعاً إلى الغرفة.

في الغرفة تناولها بنهم وسرعة رادعاً أي محاولة له للتفكير، وبعد أن انتهى تساءل كيف يمكن لأحد أن يرمي طعاماً بهذه البرودة، وغيره لا يجد ما يسد به رمقه، هذه الدنيا غير عادلة أبداً، تقلب في موضعه ثم جلس باستقامة، مدركاً انتصار معدته على مبادئه من جديد، ليصرخ فيها مهدداً: ستكون هذه آخر مرة أتناول فيها شيئا من القمامة، أتسمعين؟ لقد كان الشارع اليوم خالياً لكني لا أحتمل أن يراني أحد وأنا أفتش عن طعام لك في الحاويات. وغفى على زعمه هذا حتى الصباح.

مرت الأيام اللاحقة برتابة شديدة، لا جديد فيها سوى أن عصام اعتاد الأكل من القمامة، رغم تهديده معدته، حتى ظل أصابعه لم يعد جديداً فقد اعتاده هو الآخر، لم يعد يعرف نفسه القديمة، تائه في صمت مطبق، كصمت المدينة من حوله، لا شيء يحرك المياه الراكدة، ويشغل الشارع بمن فيهم باعة سوق الخضار، سوى حراك الشباب الثوري وهتافاتهم. يمرون كل يوم في الساعة نفسها من أمام سوق الخضار، وقد أصبح خالياً من الزبائن حتى من أولئك الذين يسومون ولا يشترون، صارخين هاتفين رافعين لافتات، يزداد عددهم يوما بعد يوم.

 وفي أحد الأيام لحظ عصام تغيّب جاره هشام، غير المعتاد عن السوق، تاركاً عربته خالية من البضائع، تساءل أين يكون يا ترى في مثل هذه الساعة؟ ثم جلس على كرسيه، يرقب مع رفاقه الباعة ثقل النهار، تصله أطراف حديث من هنا وهناك، عن شح في الأدوية ومواد التموين حتى حليب الأطفال أصبح سعره خيالياً، يسمع شكوى رفاقه في كل مكان ويكتفي بالنظر إلى وجوههم المتعبة، منتظراً قدوم موكب الهاتفين، وها هو صوتهم يعلو ويعلو كلما اقتربوا، ينتفض الباعة عن كراسيهم لمراقبة الشباب النابض بالحياة يصرخون ويلوحون، ويملؤون المكان صخباً، متجهين إلى الساحة العامة.

راقب “عصام” المشهد في كل مرة، منقلاً نظره بين وجوه رفاقه الباعة ووجوه شباب الموكب الهاتف، يرى في عيون الشباب الهاتفين إصراراً ينبعث ألقاً، وفي صوتهم إيقاعاً يبعث سلاماً، يحيي جثث الشوارع الميتة من جديد، لم تكن القضايا الكبرى محور اهتمام عصام، والحرب الدائرة في البلاد لم تكن حربه، وكذلك رفاقه الباعة، إلا أنه لا يستطيع نكران الأمل الذي يضفيه الموكب على وجوههم البائسة، كالسحر يفك عقد حواجبهم، لتنبثق ابتسامة هنا او هناك على وجه بخجل، ينظر لنفسه وكأنه غير معني بالأمر ويتساءل: ما الذي يمنع الباعة عن الصراخ والهتاف في الموكب أيضاً، عوضاً عن الجلوس، والشكوى طوال اليوم؟ سيحرس بضاعتهم ريثما يعودون، ليضحك ساخراً من فكرة الحراسة، وبالكاد هناك زبون أو اثنان في السوق، يسرقه من شروده هذا يدان تلوحان له من قلب الجموع، لم يتقين من هوية اليدين، لكن شيئاً داخله يشير إلى أنهما يدا هشام، غير مصدق لحدسه البسيط.

فما الذي قد يدفع شخصاً كهشام للتظاهر والهتاف، وقد حذره من مصير هؤلاء الوخم منذ أيام، يترك دهشته من تبدل موقف “هشام” لينصرف إلى معدته التي بدأت تتخبط باضطراب، لم يكن سببه الجوع هذه المرة، يبدو أنه قد تناول شيئا فاسداً بالأمس، يحاول أن يتصبر على ألمه ريثما يمر الجمع، وتصبح الحركة متاحة ليتوجه إلى غرفته، لكن الألم يفوق قدرته على الاحتمال، فينخرط في صفوف الجموع المتقدمة إلى الساحة، علّه يجد مخرجاً هنا أو هنالك يوصله لبيته، فينفض عن الجمع.

 في موكب الرتل الصارخ بصوت واحد، يصرخ هو ألم معدته، ويصرخون هم ألم شعب مقهور على مدى نصف قرن، يصرخ ويصرخون بصوت واحد وقلب واحد، يحس عصام لأول مرة بالانعتاق من كل شيء، حتى من معدته التي تصر على إحراجه دائماً، يسير صارخا هاتفاً، متناسياً المفارق التي توصله إلى غرفته البائسة.

 تصل الجموع إلى الساحة فيصطفون وسطها، وتتوجه أنظارهم نحو الصورة الكبيرة المعلقة على المبنى الحكومي، وبصوت واحد وحركة واحدة يرفعون أيديهم، منتصبة في وجه الصورة، يصرخ “عصام” بصوت أعلى من الجميع ويرفع يده بالحركة نفسها، فينطلق ظل أصابعه، ليغطي الساحة كاملة، حتى يواجه وجه ذلك الشاخص في الصورة، ليهلل الشارع المتخم بالبؤس لصاحب اليد الكبيرة التي غطى ظلها الساحة، ووقف منتصباً في وجه الطاغية. ينظر عصام لظل أصابعه هذه المرة ولا يهرع لإخفائه، ولا ترتعد أوصاله خوفاً، بل على العكس تماماً تعتريه نشوة كما لو أنه ولد اليوم وفي هذه اللحظة بالذات، تمر أمام عينيه صورة غرفته البائسة، وذكرى والديه وأخوته، حاويات القمامة التي فتشها بحثا عن الطعام، صوت معدته التي التصقت بظهره، صور مدرسته في حارتهم البسيطة، وصور رفاقه يهرولون إلى الدرس، ومع كل صورة يتذكرها يكبر ظل يده أكثر.

 كبر وكبر وكبر، حتى مزق صورة الشاخص أعلاه وحملتها ريح المدينة الجبلية إلى مكان بعيد جداً، ومنذ ذلك اليوم لم يعد يظهر لعصام ظل أصابعه مطلقاً.