في رواية منصورة عز الدين الأحدث “أطلس الخفاء”(*)، ثمّة صورة لنهرين متوازيين يلتقيان عند نقطةٍ ما ليكوِّنا مجرى واحداً. تتعدَّى هذه الصورة حيزها لتصبح تمثيلاً شمولياً للبُنية الروائية نفسها، حيث نهران سرديان، مصبهما هو “مراد” بطل الرواية، الموزع بين “حياته” و”تجلياته” كخطابين سرديين. الصورة تَرد في إحدى تجليات مراد نفسه، ليغدو النص المُضمّن هو النص الشارح لبنية الرواية كلها، ومن داخل رؤية الشخصية لقصتها.
تهِب منصورة عز الدين التجلي لآخر من يجدر به أن ينفتح أمامه ذلك الماوراء. “مراد” يرى ما لا يراه الآخرون، يُبصر واقعاً خلف الواقع، من دون أن يملك أي مسوِّغ: هو ليس ولياً أو شخصاً كُشف عنه الحجاب، ليس متصوفاً أو منضوياً تحت لواء “طريقة”، ليس قارئاً نوعياً وليس مجذوباً حتى. مراد موظف أرشيف في مؤسسةٍ صحافية، ليس مهماً حتى أن نعرف ماهيتها، مثلما ليس مهماً أن نعرف عنه سوى اسمه المفرد، كأنه مقتطع من شجرة، هو الذي تنصب جل تجلياته، أو إشراقاته، أو تبصُّراته (وجميعها مفردات يستخدمها الراوي) على الأشجار والزروع والحدائق، على الغرس والإثمار والامتداد.
مفارقات
هذه مفارقةٌ أولى: أن يُمنح العادي ما لا يتوافر سوى للاستثنائيين، أن تُزاح حجبٌ ما أمام شخصٍ يرتعد قبالة يوم عطلة، كونه لن يعثر خلاله على ما يسد به رمق خواء عالمه. هذا رهانٌ روائي واضح، وربما هو أحد التساؤلات العميقة لنص منصورة الأحدث: نص عدم تصديق لثنائية العادي والخارق، يخلخلها عبر حلقتها الأكثر هشاشة، وباختيار النمط الأشد تهميشاً في الحياة الإنسانية.لكن المفارقة الثانية، المفارقة الأفدح والأشمل، تمثلها طريقة هذه الرواية نفسها في تحقيق “روائيتها”. ثمة عالمان: عالم مراد الباطني، عالم رؤاه، وعالمه الخارجي: حياته اليومية كموظف صغير. كلا العالمين يخفت فيه السرد الضاج، الذاهب للصراع الجلي، باتجاه ذروةٍ يتعقد فيها الحدث.
التجليات أقرب لعالمٍ وصفي، وإن برقت فيها شخوصٌ من عالم مراد الحقيقي أو أشباح محكياتٍ باهتةٍ ومبتورة ومبتسرة. إنها في نهاية المطاف أحلامٌ ما، انتقلت من المنام إلى الصحو لتزاحم قانونه ولتزحزح الواقع أو لتعيد تعريفه. في المقابل، فإن العالم الخارجي، عالم الشخصية في الواقع التجريبي، لا شيء أيضاً سوى حياة عادية، بل أقل، لشخصٍ لا يُرى. أن يلتئم هذان الجناحان، اللذان يقع فيهما أقل القليل من الأحداث، لتشكيل رواية، هو أمرٌ شديد الصعوبة.. وهو في ظني مغامرة هذه الرواية.
***متى يبدأ موت “مراد”؟ ليس حينما يوشك على التقاعد، بل عندما يقرر التدوين.يقرر “مراد”، أخيراً، وهو على مشارف الستين، أن يحوَّل رؤاه إلى كتابة. هنا تبدأ رحلته نحو الزوال، كأن الكتابة طريقٌ نحو النهاية. في الحقيقة، الكتابة هنا هي تدوينٌ للزوال نفسه، “فإن كان كل شيء إلى زوال في الحياة الواقعية، فمنطق تجلياتي يقول إن كل شيء فيها يجري، من الأساس، في منطقة الزوال، حيث لا شيء ولا أحد، حيث لا وجود ولا كينونة”. انعدام الأشياء والناس والوجود والكينونة يعني أن “مراد” يبصر شيئاً واحداً هو العدم، الموت، وبتدوينه، يكون قد منح نفسه المقبرة.
تجليات
أسلوبياً، يقف مراد أمام طريقين، خيارين كلاهما مُر: أن يكتب تجلياته بالضمير الثالث، أن يُحوِّل نفسه إلى غائب، أو أن يكتب بالضمير الأول، أن يؤكد على حضوره كـ”أنا”. يحسم مراد قراره بالخيار الثاني، ليمنح الرواية نفسها إيقاعها. مجدداً يأتي حسم عنصر في تقنية الخطاب الروائي من داخل تفكير الشخصية نفسها، كأنها تراقب قصتها بعين خارجية إذا ما صارت نصاً. هنا يبدو أن تفكير مراد هو قناعٌ لتفكير الروائي الذي اخترعه، إنه التفكير في النص الأشمل، التفكير الذي يعلو الشخصية، وكأن التساؤل هو تساؤل منصورة عز الدين نفسها عن الإيقاع الروائي.
هكذا تتشكل وجهة النظر في الرواية عبر “مرادين”، إن جاز التعبير، “مراد” كـ”هو”، يتولاه ساردٌ خارجي، و”مراد” كـ”أنا” تتولى سرد ذاتها من الداخل. هنا أيضاً يتخلق إيقاع آخر في المسافة بين شخصيةٍ روائية وشخصيةٍ توهِم بأنها حقيقية، بأن ما تكتبه لا ينتمي للتخييل؛ إنه سيرة، حتى لو كانت سيرةً خارج الواقع. لكن المهم هنا أيضاً تأكيد الموت لا الحضور، فلا أحد يموت بضمير الغائب سوى في التخييل، ولكي يموت مراد حقاً، كان يجب أن يصير “أنا”.
التدوين هذه المرة يخلخل وظيفته كقرين للخلود والبقاء، كأن اللغة لا تقاوم العدم، بل تؤكد حضوره. ومن هنا يمكن تأمل العنوان نفسه في علاقته بالأفق الدلالي الأشمل للخطاب. يكتب مراد ليمنح الشفهي جغرافياه. إنه يكتب بحثاً عن خريطةٍ لا نص. كيف يمكن تكوين خريطةٍ ليابسةٍ لم يطأها أحد؟ ما السبيل لمنح المجرد تجسداً، والمهوَّم جسداً؟ ولمن يتوجه هذا “الأطلس”؟ الإجابة البديهية: لشخصٍ سيطأ هذه الأرض بعد اكتشافها. هل هذا قابلٌ للحدوث؟ حسب مراد: لا. سؤالٌ آخر؛ كيف يفكر “مراد” في مصير هذا الدفتر بعد رحيله؟ هل يفكر في متلقٍ ما، أم لا يريد؟ لماذا لم نره يتأمَّل هذه الفرضية؟ لماذا، وهو موشكٌ على الاحتضار، ترك هذا السؤال، رغم أن ذلك الدفتر هو إرثه الوحيد، إرثٌ سيرثه غريب، سيحوزه من لا يجب أن يحصل عليه، فلم يتزوج مراد، وليس له نسل من ثم.
لا يسأل مراد أبداً عن مصير ما خطَّ. كأن الكتابة فعلٌ لا ينتمي للإفصاح وغير عرضة للتداول يوماً ما. كأن الإفصاح يخون وظيفته. كأنه الشفرة لا الجسر. كأن تدويناته صورة أخرى للكرتونة التي يغلقها لدى خروجه للتقاعد، فتصبح نصاً مغلقاً يتركه تحت مكتبه ولا يصحبه معه، وكأن التدوين _ قرين التداول والمشروط آجلاً أم عاجلاً بالعلن _ سيظل سرَّه حتى بعد أن صار مظهراً متاحاً لأي شخصٍ قد يعثر على ما دُوِّن.
مع الرُبع الأخير من النص _ الفصول الثلاثة الأخيرة في الرواية المؤلفة من اثني عشر فصلاً_ وحين يدخل “مراد” فعلياً مرحلة الاحتضار، تختفي التجليات.. ليس بسبب الوهن في تقديري، لكن، لأنها أدت دورها، أوصلته إلى حيث يجب أن يصل، أو ربما إلى حيث يريد، لأن موعد التقاعد المحتوم (بعد التمديد لخمس سنوات) يعني ببساطة موته.
من المثير هنا أن كافة الشخصيات التي تنتمي لعالم مراد “الحقيقي”، تُقدَّم بالأساس عبر تجلياته. شخصيات حقيقية، من لحم ودم، لن نراها خارج رؤاه إلا لماماً، وكأن المرجع الوحيد الممكن للواقع هو ما خلف الواقع. من الجدة “خديجة” لـلشقيقة “ليلى” للحبيبة وردة للأم الميتة، وسِواهن.
بساتين البصرةالشخصية الروائية يقدمها الواقع أولاً. تكاد هذه العبارة أن تكون قانوناً روائياً، لكن شخصيات “أطلس الخفاء” اللصيقة بتاريخ الشخصية تنشأ بالكامل من عالمها الداخلي آخذةً بالتجسد، في عكسٍ عنيف لقوانين العالم الروائي الذاهب من التجسيد للتجريد. وربما يجدر هنا الإشارة إلى أن “مراد” نفسه نابع من تخييل سابق، حيث كان أحد شخوص رواية “بساتين البصرة”، وهو إذ يخطو من تخييلٍ لآخر، يحصل على حصةٍ مشبعةٍ من التجسد تعقب تواجداً كان بكل تأكيد أقل حضوراً.
الملحوظة الثانية تخص هيمنة المرأة على تجليات مراد، نساء مراد هن أعمدة إشراقاته ببطولةٍ شبه مُطلقة، فيما يستأثر العالم الأبوي الذكوري بحصته في الواقع التجريبي، كأن القسمة جرت بتواطؤٍ ما، وكأن المرأة هي الأعماق بعد أن تركت السطح (السلطوي) لهيمنة الذَكَر.
***مراد شخص ينسى. هذه خصيصة أساسية فيه. لكن، ما الذي ينساه بالضبط؟ إنه ينسى ما عاش، لكنه لا ينسى ما لم يعش: ما هُيء له. إنها مفارقةٌ أخرى فادحة.
يتذكر مراد تجليات عمره بلا معاناة، فيما يُخفق في استعادة شيء مما عاشه حقاً. كأنه ابن تخييله، وكأنه، من دون أن يقصد، يذهب بالفردية إلى وجهتها الأقصى، في التباسها بجوهر الوعي الصوفي، حيث لا شيء يحدث خارج أعماقه. المدهش أنه ينسى حتى ما يخص فعل التدوين نفسه، بما أنه ينتمي لعالمه الواعي: “يحدق أكثر في الإشراقات المُدوَّنة بدفتره، فيكاد لا يتذكَّر متى دوَّنها”.
كيف لذاتٍ إنسانية أن تتذكر ما لم يقع؟ كيف لفعل التذكر أن يشحذ نفسه بالكامل نحو تهيؤ، فيما لا يُمثل الماضي التجريبي بالنسبة إليه أي شيء؟ إننا نعرف شيئاً ما عن تاريخ مراد كمستبصر، بينما يستحيل أن نعرف عنه شيئاً في الواقع سوى الحاضر. كان في مقدور الراوي العليم أن يسترجع بالنيابة عنه، غير أنه اختار على ما يبدو ألا يخون إرادة شخصيته مختاراً أن يكتفي بموقع السارد المُصاحب.
الأذُن معطلة
الصمت خصيصة ثانية جوهرية في استبصارات مراد. لا صوت، الأذن معطلة. في الواقع أيضاً يخلق مراد صمتاً اصطناعياً، بسدادتين في أذنيه. لا يريد مراد شيئاً من الصوت، كأن الصوت يعيق الرؤية، والرؤيا من ثم. يصم مراد أذنيه بالذات عن الثورة، فيما يرى تجسدها الحي في “جبريل”، الذي يجمع المتناقضات كافة. “جبريل”، الذي لن يلبث اسمه أن يُفصح عن قدرٍ من إحالاته في الذاكرة الجمعية، ليصبح وحيه الشخصي: “خيل إليه أنه انبثق فجأة من أرض العدم في فضاء حياته هو. أقنع نفسه بأنه ظهر في عالمه لغرضٍ ما، لدور محدد عليه تأديته”. جبريل الذي يأمر مراد بأن يقرأ “أجندته”، ليرفض مراد كأنما يردد: “ما أنا بقارئ”، فيحدث الشقاق. هذا الوحي الثوري، يجبر مراد على اعتزال المقهى الذي كان غار حرائه، لتصبح عزلته أكيدةً وتامة. يهرب مراد من مراقبة مُلاحِقه، كأنه يرفض الحصول على دور. وحين يتأمل جدارياته، يتأكد لديه إفلاس اللغة، حيث يكتب جبريل كل شيء ونقيضه، حيث لغط انحيازات يستحيل أن تجتمع أو تتصالح في وعي الشخص نفسه. “اللغة”؛ إنها مأزق “مراد” العميق، حين تُنطق لتصير صوتاً يسد أذنيه عنه، وحين تُكتب لتصبح نصوصاً في أوراقٍ، يصححها للآخرين لا ليحصل على أجر، بل ليمنحها قدراً من تساوقها المفقود، ثم حين تصير شعراتٍ على جدران المدينة، تقول كل شيء وتنفيه، ولا يملك حيالها سوى مغادرة المدينة نفسها، نبذ الفضاء العام، باتجاه شقته، وأخيراً، حين يقرر هو التدوين، ليدرك أنه يكتب العدم.كلا الصمت والنسيان نفيٌ للغة، وإن كان الأول يفعل ذلك بداهةً كونه نقيضٌ واضح للكلام، فإن النسيان يحوِّل التاريخ إلى صمتٍ أمضى وأشد شراسة، حد التشكيك العنيف في وقوعه. يموت مراد وتموت اللغة، هو نفسه “يعود صفحةً بيضاء، جنيناً غافلاً عن ذاته وهويته” فيما يهيمن شذا ليمون، لن ندري هذه المرة إن كان قادماً من إشراقاته أم من الواقع. وحدها الرائحة تكتب النهاية، وحدها الرائحة: تلك التي لا سبيل أمام أي لغةٍ لوصفها.
(*) صدرت عن دار الشروق في القاهرة، 2022.
*المدن