عاشت البلاد التونسية بُعيد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 مخاضًا سياسيا وفكريا أفرزَ مشهدًا ثقافيا متلونًا، قوامهُ الاختلافُ والتنوعُ، وهو أمرٌ طبيعي ونتيجة حتمية لما نادت به الثورة من تعددية فكرية وسياسية، تقطع مع سياسة الحزب الواحد والحاكم الواحد واللون السياسي والفكري الواحد، فانخرط المثقفون والمهتمون بالشأن الثقافي باِعتبارهم أداة التوازن المفقود داخل المجتمعات المهتزة سياسيا، في محاولات إعادة بناء وترميم المشهد الثقافي، وإعادة الاعتبار إليه، في ظل تناسي الحكومات المتعاقبة لهذا العنصر الحيوي والمهم في حياة الأفراد والجماعات، أمام تفاقم ظاهرة الإرهاب وتدني المستوى الاقتصادي الوطني، إيمانا منهم بأن اليد الواحدة لا تصفق، وأن الدور المنوط بعهدتهم أساسا هو سد الفراغ الناجم عن سياسة وطنية واضحة ترقى بالمشهد الثقافي، وقطعا مع البيروقراطية المقيتة التي لا تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الأفراد، وكسرا مع المركزية الثقافية التي أسهمت في عُزلة المناطق الداخلية والجهات الريفية والأحياء الشعبية وحرمانها من حقها في الثقافة، تأسست ظاهرة جديدة وهي ظاهرة (المقاهي الثقافية) وهي امتداد طبيعي لظاهرة الصالونات الأدبية، وإن كان الصالون الأدبي مجلسًا أدبيا دوريا يضم جماعات الأدباء والنقاد والمثقفين للتناقش والتحاور، حول قضايا الأدب والفكر، فإن المقهى الثقافي فضاء قار تؤمهُ جموع الطلاب والمثقفين وربات البيوت وذوو الاحتياجات الخاصة، وغيرهم ممن لا يُشترط فيهم أن يكونوا على اطلاع واسع، تكوين هدفه إيصال الثقافة إلى كل كافة أطياف المجتمع ومكوناته، وتطويعها لملاءمة مستوياتهم، تحصينًا لهم من الانغلاق والتطرف، وتدريبا لهم على قبول الآخر والاقتراب منه.
فظهرت في الخضم جملة من الفضاءات التي كانت مزاوجة بين الترفيه (المقهى باعتباره مكانا ترفيهيا يُرتاد وقت الفراغ) والتثقيف (باعتباره فضاء يسهر على تنظيم التظاهرات الثقافية وتقديم الخدمات التي توفرها باقي الفضاءات الثقافية العامة كتوفير خدمة مطالعة الكتب مجانا) كمقهى اللوح، ونجمة الشمال وسط العاصمة، ومنهما انطلقت الشرارة لتجتاح كافة أرجاء البلاد من شمالها لجنوبها.
البحث عن عالم بديل
في مدينة مدنين، وهي مدينة تقع في الجنوب الشرقي للبلاد التونسية، وهي مدينة حدودية تُصنفُ ضمن أقل المدن تنمية، لما تعيشه من تهميش اقتصادي واضح وتصحر ثقافي صارخ ـ ميزانية هشة لقطاع الثقافة، انعكس سلبًا على جودة التظاهرات الثقافية على نُدرتها، بادر مجموعة من الشباب لتقديم البديل وتحقيق نهضة فنية ممكنة، فبرز في مرحلة أولى فضاء (حوش الفن) وشكل آنذاك ثورة فكرية وثقافية في الجهة، التي اعتادت التهميش، وظلت متعطشة لصحوة فكرية مرتقبة، وتلاه فضاء ثان هو (مسار 28)، ثم (المسرح الصغير)، وأخيرا (فضاء أرطو) ولئن كان مصير الأول والثاني الإغلاق، في ظل غياب الدعم المادي من سُلطات الإشراف، بل تملصها من مسؤولية هذه الفضاءات، التي ترى أنها ما جاءت إلا لتُخصخص القطاع العام الوطني، وصرامة التراتيب البلدية ومحدودية دخل هذه الفضاءات التي تنظم كافة تظاهراتها بسعر رمزي لتقريب الثقافة من المواطن، فإن مصير الفضاءات المتبقية لا يُعد أفضل حالا عن سابقيهما إذ يكافح هذا الشباب من أجل البقاء وتأسيس مشهد ثقافي بديل يحارب التطرف ويُشيعُ الرغبة في تفهم الآخر، وينبذ ثقافة الانغلاق والتقوقع على الذات.
عالم أرطو
في مبنى بسيط في طابق علوي، يوجد فضاء أرطو لصاحبه حبيب العدواني، حبيب خريج المعهد العالي للفن المسرحي كغيره من الشباب المتحصل على شهادات عليا، يجد نفسه عاطلا عن العمل، لكنها عطالة قسرية لا اختيارية، يبعث فضاء أرطو نسبة إلى العظيم أنطونان أرطو أحد أهم المخرجين العالميين، الذين حاولوا الانزياح عن الشعرية الأرسطية والتمرد على المسرح الغربي عبر التأسيس للمسرح التجريدي، أو المسرح العابث، ولعل العنوان أو الاسم لم يكن أمرا بديهيا متولدًا من فراغ، فهذا العلم المدرسة في تاريخ المسرح العالمي، كان علامة فارقة بشرت بميلاد تيار جديد في المسرح، وكذا هذا الفضاء الصغير في حجمه الثري بأنشطته والرحب بسعة صدر العاملين به، يؤذن بميلاد ثقافة بديلة في هذه الجهة الجرداء ثقافيا.
استطاع هذا الفضاء رغم مرور فترة قصيرة على تأسيسهِ، أن يلعبَ دوراً كبيراً في تطوير الحركة الأدبية والثقافية في المدينة، إذ يرتادهُ عدد من المثقفين متخذينه فضاءً ملهماً للإبداع والحوارات والمساجلات الجادة، هرباً من تقييد روتين العمل والمحافل التقليدية، ما أسهم في تشكيل ثقافة مستقلة بذاتها ودافعاً لإنتاج ثقافي مختلف، إذ يُمثل الفضاء حاضنة لعدد من النوادي، كنادي سينما الحرية الذي عرض عددا من الأفلام العالمية الأجنبية والعربية، المتبوعة بحلقات نقاش، ونادي الأدب الذي نظم أكثر من أمسية شعرية مع مصاحبات موسيقية، ونادي اللغة الإنكليزية ناهيك عن الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، التي اتخذت من مقر الفضاء مكانا فيه تنظمُ ورشاتها التفاعلية واجتمعاتها الدورية تشجيعا لهذا الشباب المبادر، وقطعا مع جشع الرأسمالية المفرطة (أصحاب النزل وقاعات المؤتمرات) وخروجا بأنشطة المجتمع المدني من طابع الرسمية الخانقة. كما نظم الفضاء فترة المراجعة لامتحانات البكالوريا، حصصا مجانية للمراجعة نظمها أساتذة أجلاء تطوعا.
إن مثل هذا الفضاء يُعد صمام أمان ودرعا واقية ضد ثقافة التطرف والانغلاق والموت، ومن واجب الجهات المانحة الدولية كالاتحاد الأوروبي ورؤوس الأموال والسلطات الرسمية دعم هذه المشاريع الثقافية الرائدة، التي تُساهم لا شك في التأسيس لثقافة بديلة تؤمن بشمولية الفن وتتسع لكل الأطياف والتيارات دون أي تراتبية أو هرمية فنية.
*المصدر: القدس العربي