ضاهر عيطة: فيلم “ذئب صغير” لـ شادي أبو فخر.. عن كسرة الخبز وموت السوري من الجوع

0

يثير عنوان فيلم “ذئب صغير” للمخرج السوري شادي أبو فخر دهشتنا حين نعلم أن هذا الذئب الصغير، الذي راح ينهش روح وقلب شخصية رامي، ليس إلا كسرة خبز. والتي تحيلنا بالطبع إلى موضوع الجوع، وهو الثيمة التي اتكأ عليها الفيلم محاكيًا تداعيات وآثار حصار الجوع الذي فرضه التنظيم الأسدي على المدن والأحياء السورية، ضمن حكاية مبتكرة، حملت في مضامينها كثيرا من المداليل والرموز، مجسدة في بطلها (رامي) الذي ظهر كشاب لديه ما يمكن أن نسميه عقدة (كسرة الخبز) حيث يعتقد أن التهامه لتلك الكسرة في أوج ذلك الحصار في لحظة كان فيها صديقه (عمر) أحوج إليها؛ هو ما أدى إلى أن يلفظ الأخير أنفاسه.

إلا أن الكاميرا تتابع حركة رامي وهو يسير في شارع من شوارع دول اللجوء– وليس في سوريا- قاصدًا واحداً من المشردين، ليعطيه (السندويش) كما اعتاد أن يفعل كل يوم، وربما كان قد مر يوم أو أكثر ولم يُحضر فيه رامي السندويش لهذا الرجل الذي يتخذ مقعدًا خشبيًا في الشارع العام مكانًا له، حتى إذا ما عاد إليه رامي، وجد الكرسي فارغًا إلا من نبتة وردة موضوعة في آنية زجاجية، ما يشير إلى أن الرجل المشرد كان قد تركها لتشكر رامي نيابة عنه، بعد أن فارق الحياة نتيجة الإهمال و الجوع.

نشوء عقدة “كسرة الخبز”

هذا الحدث المباغت يهز وجدان رامي ويعود به إلى الماضي، حيث نتعرف إلى السبب الذي دفعه للمواظبة على حمل السندويش لذلك الرجل وغيره من الجوعى والمشردين، إذ يعود بنا المخرج أبو فخر إلى العلاقة التي كانت تجمع رامي بصديقه عمر، فنراهما يسيران في حي من الأحياء السورية المحاصرة وقد دمرته الطائرات والبراميل. ولا يكاد صوت الرصاص ينقطع، ورامي وعمر يحاولان النجاة من طلقات الرصاص وهما يعبران في شوارع حيّهما الذي أضحى خرابًا.

ويبدو أن عمر، من فرط جوعه، لا يستوقفه من بين كتل المباني المدمرة سوى ذاك المحل الذي كان يبيع الفروج المشوي فيما مضى، مشيرًا إلى رامي عن مكانه وهما يواصلان تسللهما ضمن الحواري. وحين تنتقل الكاميرا إلى مشهد آخر، نلحظ ملامح التعب والإرهاق جلية على وجه عمر وكأن الجوع قد هدّ قواه.

وما إن يدخل الصديقان بيتاً من البيوت المدمرة، ليحتميان من زخات الرصاص، يطلب عمر من رامي أن يبحث له في زوايا البيت عن أي شيء يمكن أن يُؤكل ليسد به رمق جوعه، فيسارع رامي إلى المطبخ المهجور. وكمن يعثر على كنز ثمين، يعثر على كسرة خبز صغيرة مركونة وسط قطعة قماشية وضعت في سلة خبز فارغة.

وفي أوج غبطته وأنين الجوع، يلتهم رامي كسرة الخبز. وبينما هو مستمتع بمذاقها، يصله صوت صديقه عمر من غرفة مجاورة يسأله عمّا إذا عثر على ما يؤكل. وهنا تنقلب متعة تذوق كسرة الخبز إلى لعنة تدمي حلقه، مستدركًا حال صديقه الجائع أكثر منها، فيعود إلى نبش قطعة القماش وأثاث المطبخ بحثًا عن بقايا من الخبز أو أي طعام لصديقه.

غير أنه وفي بحثه المحموم لا يعثر رامي على مراده، حتى إذا ما عاد إلى عمر وجده قد فارق الحياة، ليبدأ الصراع الخفي في أعماق رامي مفترضًا أنه لو أعطى كسرة الخبز لصديقه لما مات.

نتيجة لذلك، تنشأ في أعماق رامي أشبه ما تكون بـ “عقدة إطعام الغير” إلى حد الاستماتة والتضحية. لكننا لا نستدرك هذا الأمر دفعة واحدة وإنما يصلنا رويدًا رويدًا، مع تفكيكنا للشيفرات والرموز التي تنبعث عن مشاهد الفيلم، لنعي السبب الذي دفع رامي ليجوب الأحياء والشوارع في بلد اللجوء باحثًا عن مشردين مانحًا إياهم السندويش وخصوصًا بعد موت عمر.

التوظيف الرمزي في الصورة والصوت

ضاعف من جماليات الفيلم الكيفية التي اعتمدها المخرج في سرد مجريات الأحداث؛ إذ لم يتم الكشف عن مدلولات الحكاية وألغازها من داخل المنتج الفني، وإنما ترك للمشاهد حيزًا كبيرًا ومفتوحًا لتأويل وتفسير مضامينها ومعانيها، مورطا إياه في صيرورة أحداثها، باحثًا عن منجى لنفسه منها، وقد تحسس أوجاع الجوع في أعماقه. إضافة إلى أن تداخل الأمكنة والأزمنة في البنية السردية السينمائية، كان قد ساهم في إغناء المشهدية البصرية، ومضاعفة آثار الدهشة التي ظلت ترافقنا طوال أحداث الفيلم. فكان كل حدث من الحاضر يستدعي بالضرورة حدثاً من الماضي أو العكس، وإلا لتعذر فهم ما يجري من أحداث استغرق سردها 20 دقيقة من زمن الفيلم، ولهذا جاءت مكثفة وغنية في مدلولاتها ومعانيها.

منذ اللقطة الأولى ترصد الكاميرا زجاجة فارغة تتدحرج على الرصيف، وسط العديد من إطارات الدراجات الهوائية، وقد ألقي بها بعيدًا عن صناديقها الملونة المركونة على الجانب الآخر، وكان يمكن للوهلة الأولى أن يفهم من هذه اللقطة أن الفيلم سيعالج مشكلة إدمان الشباب على الكحول والمخدرات، ولكن الأمر لم يكن كذلك؛ إذ لم تكن الزجاجة وتدحرجها على هذا النحو وهجرها لصناديقها التي احتوتها، إلا إشارة لحالة الاقتلاع وتهجير الناس بعيدًا عن دفء البيت والحي والأهل، وكان صوت ارتطام الزجاجة الفارغة على الرصيف والرنين الصادر عن ذلك الارتطام، شبيهًا بأنين الأمعاء الخاوية، وبأنين المشردين والمبعدين.

ومن هنا، تضمن توظيف الزجاجة والصناديق في الخلفية وكذلك إطار الدراجات الهوائية، ضمن لقطة خاطفة وسريعة، جملة من الإيحاءات التمهيدية لموضوع الفيلم. وما إن تخرج الزجاجة من كادر اللقطة حتى ترتفع الكاميرا إلى الأعلى، فتسيطر الدراجات الهوائية على المشهدية فاسحة المجال شيئًا فشيئًا لظهور شخصية رامي وهو يسير على الرصيف في الجهة التي تدحرجت نحوها الزجاجة، ليتم الانتقال إلى مكان آخر.

كل ذلك والكاميرا تستمر بتعقّب خطوات رامي في نفس الشارع أو الحي إلى أن يلتقي بالرجل المتشرد، ويقدم له السندويش. وللمفارقة، يظهر في الخلفية محل لبيع الأطعمة، أي أن هناك رجلاً محروماً من الطعام وأمامه مكانٌ مخصصٌ للإطعام.

وما إن يعطي رامي السندويش للرجل حتى يتم الانتقال إلى مشهد آخر.. رامي على متن وسيلة نقل عامة وهو في حالة من الشرود، ثم يدخل بيته ويلتهم “سندويشته”. وعلى هذا النحو تتكرر المشاهد لثلاث مرات، مع تصاعد في الأداء وفي رمزية المشهدية البصرية، مضافًا إليها إيقاعات صوتية رتيبة وصاخبة في بعض الأحيان.

عودة إلى الحريق السوري

إلا أن رامي حين يعود في المرة الرابعة حاملًا للرجل المشرّد (السندويش)، لا يجد على المقعد سوى شتلة من الورد، كناية عن أن الرجل قد مات. وهنا تنشط ذاكرة رامي، مع موسيقا وتمتمات صوتية تسوقنا إلى فهم ما حدث تمامًا، حيث ننتقل إلى الفضاء السوري والكاميرا ترصد جداراً كتب عليه:

“من هنا مر جنود الأسد”..

ورامي وصديقه عمر يحاولان النجاة من زخات الرصاص مع حديث الأخير عن المباني المدمرة ومحل الفروج المشوي.

ومن كثافة الرموز المطروحة، تُثار اللهفة لمعرفة ما يتم نسجه في ثنايا فيلم “ذئب صغير” حتى إذا ما اتضحت لنا جوانب من خيوط الحكايا، نكتشف أن “عقدة كسرة الخبز” لدى رامي هي من راحت تدفعه لتهيئة أكبر قدر من السندويشات وتوزيعها على المشردين أينما وجدهم. وما يباغتنا هنا أن وجوه جميع المشردين الذين يقدم لهم السندويش يحل فيها وجه صديقه عمر، وأكثر ما تجلت فرحة رامي وغبطته من إطعام الآخرين، حين أبصر تلك الابتسامات التي راحت تتراءى على وجوه المشردين، ما جعله يفضلهم على ذاته مانحًا لجوعهم أولوية على جوعه.

وبينما هو يطعمهم، كان رامي يحرم نفسه من الطعام، ليموت أخيرًا من فرط الجوع وكأنه يعاقب نفسه على كسرة الخبز التي آثرها لنفسه وحرم منها صديقه عمر، الذي مات جوعاً بسبب حصار الأسد، وليس بسبب حرمانه من كسرة الخبز، كما كان يظنّ رامي.

(سوريا)