لا وقت أفضل من الصباح الباكر لتعرف أنك في المكان والزمان الصحيحين… أو الخاطئين. يذكرني مذاق التين صباحاً بذهابي إلى المدرسة الإعدادية، كان طريقها يعج بأشجار التين، وعند كل شجرة محطة لأكل طوب أو طوبين، وإذا ما ارتفع الغصن قليلاً كان ظهر صديقك أفضل معين، صديقك الذي تقاسمت معه توبيخاً وضرباً من موجه المدرسة الغاضب دائماً، حين لم يكن يهتم بأننا نقوم بالتدخين بقدر ما كان يهتم بشرائنا الدخان من دكانة المدرسة، التي يستثمرها ابن أخيه “المسكين” كما كان يدعوه خلال نوباته المزاجية الجيدة التي يحثنا بها على الشراء من الدكانة. كنا ننظر أنا وأصدقائي إلى وجوه بعضنا بعضاً، ونبتسم بخبث من فهم الأمر برمته حين نشاهد المدير والموجه يتقاسمان غلة المسكين، وكأننا أتقنّا هذا الدرس إلى أبد. أستحضر هذه الذكرى بفعل الابتسامة المتبادلة على وجوه الأطفال في السرفيس (الحافلة) وهو يقلهم الآن إلى مدرستهم وقد استوقفه شرطي المرور ليأخذ من سائقه الرشوة الدورية، يبدو أنه أحد أول الدروس الحياتية المشتركة لجميع الأطفال في هذه البلاد.
على الرصيف خلفي، طفل يضع في جيبه 200 ليرة ويبقي بيده 500 ليرة بعدما كسبها من نفخ عجلات السيارة في الورشة التي يعمل فيها، لتأتيه بعدها صفعتان على رقبته وركلة تسقطه أرضاً، يملأه الضحك ويخرج ما وضعه بجيبه ويعطي المبلغ كاملاً “لمعلم الشغل”، يشد بنطاله الواسع بعدما نزل عن خصره وينطلق إلى زميله الأصغر منه بنية والذي ملأه الضحك هو الآخر. يلف يده حول عنقه “هو كمان كان عم يسرق يا معلم”، يتجاهلهما “المعلم” ويطلب من امرأة حولها أطفالها الخمسة الابتعاد من طريق السيارة الخارجة من ورشته، تبتعد المرأة أكثر مما كانت مبتعدة من موقف “السرفيس”، الموقف الذي يتحول صباحاً إلى سوق ركاب لبعض السيارات الخاصة العابرة كما اليوم. تعبر السيارة التي ستكمل من دون اهتمام إن لم يُعجب سائقها بإحدى الإناث المنتظرات ليقلها بطريقه، يومئ السائق بيده من النافذة بمعنى الرفض لمن يحاول من الذكور الاقتراب من السيارة التي تسير ببطء، يتوقف عند إحدى الشابات، “وصلك آنسة؟” يسألها، ترتبك الشابة، لا وقت للتفكير فقد بدأ الركاب المنتظرون بالتجمع حول السيارة. تصعد في المقعد الخلفي وتتبعها المرأة وأطفالها الخمسة، إلا أن الأخيرة تعاود النزول فوراً، يبدو أن السائق طالبها بالنزول. يحاول أحد أطفالها الأكبر سناً، والذي فهم الموقف برمته، توبيخ السائق الذي كان انطلق بسرعة، رافضاً أن يملأ بقية المقاعد متذرعاً بشتى الحجج. يتعثر طريقه بسيارتين قادمتين، عكس السير، تابعتين للشرطة أو للأمن، إذ بات التمييز بينها صعباً بعد خلط سيارات المؤسسات الأمنية، فسابقاً كانت تعرف الجهة الأمنية من نوع السيارة الآتية للمهمة. ينزل العناصر ليبدأ أصحاب “البسطات المتنقلة”- وهي عربات وألواح تعرض عليها بضائع متنوعة على الطرق- بإخفاء البضائع عند أصحاب المحال أو عابري الطريق أو مكب النفايات أو أي مكان يخفف من خسارة مصادرتها، يبدو أن تكتيك الهروب وترك العربة قد بَطُلَ بعدما أصبحت البضائع لا تعوض بأسعارها الجديدة، وأن إنقاذ بعضها من المصادرة يستحق مشقة الاعتقال ومعمعة المخافر والسجن. تمسك الدورية بطفل خلف إحدى العربات وتسوقه إلى السيارة، يتقدم أحد أصحاب العربات برفقة طفل آخر، فهم الأمر برمته أيضاً من الجهة المقابلة للشارع، ويحاول التحدث معهم وجذب انتباههم ريثما يقوم الطفل الذي كان برفقته بتعبئة بعض البضائع من عربة الطفل سيئ الحظ. ثم يلوذ بالفرار مسرعاً حين يلاحظه عناصر الدورية. يساق الرجل إلى السيارة ذاتها بعدما تبين أنه والد الطفلين ثم يطلق سراح الطفل الأول ويغادر العناصر بسياراتهم المتهالكة، إذ تمت المهمة بنجاح. سيضطر الآن صاحب كل عربة تقف في المكان ذاته للذهاب إلى المخفر أو فرع الأمن من أجل دفع ثمن حماية بضائعه من المصادرة، ونفسه من الاعتقال. “الكبسة” إشارة واضحة إلى أن عيون الضابط المسؤول لن تتجاهل انتشار العربات في هذا الشارع من دون أن يقاسمها جزءاً من أرباحها.
استطعت الصعود إلى السرفيس ووجدت مكاناً على “الشلال” وهو لوح خشبي تتم إضافته كمقعد جانبي لاستيعاب عدد أكبر من الركاب.
في المقعد الأخير ثلاثة مراهقين يستعرضون سكاكينهم الـModern”، ويقارنون بينها ويتحدثون حول رشوة سيدفعها أحدهم لتأمين البنزين ومن ثم بيعه. في المقعد الأوسط شاب يضع مريولاً طبياً على ساقيه ويهز رأسه بالموافقة على ما يخبره به عسكري بجانبه عن كل الجرائم التي قام بها في غوطة دمشق.
في المقعد الأول، رجل في منتصف عمره يقول لمن بجانبه “هو ما كان مزبط أموره، أنت إذا بدك أنا بحاكيلك العميد فلان والعقيد علان”، أما السائق في الأمام، فيحاول الحصول على صفقة مع الراكبين بجانبه لشراء المازوت “الديزل” المخصص لهما عبر البطاقة الذكية.
لا وقت أفضل من نصف ساعة في الصباح الباكر لتتيقن أن معرفتك بأنك في المكان والزمان الصحيحين أو الخاطئين لا تعني شيئاً حين يعيد الواقع إنتاج نفسه كل يوم أمام ابتسامات من فهموا الأمر برمته.
(درج)