صدر عن منشورات المتوسط المجلد الأول من الأعمال الكاملة للشاعر اللبناني الكبير أنسي الحاج (2014 – 1937) صاحب ديوان “لن”، وهو ديوانه الأول الصادر عام 1960، والذي كان بمثابة الصرخة الشِّعْرِيَّة الأولى التي أعلنت ولادة قصيدة جديدة، لم يعهدها الشِّعْر العربي من قبل، لا في مضمونها ولا في لغتها وشكلها.
وإن بدت مقدِّمة “لن” منذ تلك اللحظة، بمثابة “البيان” الأوَّل لقصيدة النَّثْر العربية في مفهومها النقدي والتِّقْنِيِّ والجمالي، فإن فرادة “لن” لم تكمن فقط في كونه الخطوة الأولى التي رسَّخت قصيدة النَّثْر العربية، في ما تعني هذه القصيدة من معايير شِعْرِيَّة ولغوية، في منأى عن الشِّعْر المنثور وحتَّى الشِّعْر الحرِّ المتحرِّر من الوزن والقافية، بل تجلَّت أيضًا في الصدمة التي أحدثها هذا الديوان في الشِّعْر العربي، خالقًا جمالية جديدة، هي جمالية الهدم والهتك واللعنة والاحتجاج التي ترمز إليها مفردة “لن”.
يضم المجلد الأول من الأعمال الكاملة مجموعات أنسي الحاج الشعرية الستة: “لن”، و”الرأس المقطوع”، و”ماضي الأيَّام الآتية”، و”ماذا صنعتُ بالذهب، ماذا فعلتُ بالوردة”، و”الرسولة بشَعْرها الطويل حتَّى الينابيع”، و”الوليمة”.
تشرف الشاعرة ندى الحاج، وهي ابنة الشاعر، على إصدار هذه الأعمال، والتي ستتوالى تباعًا كما جاء في مقدمة الناشر: “ثمَّ سيصدر الجزء الثاني في مجلَّدَيْن، وسيتضمَّن مقالات أُنسي الحاج والمُعنونة بـ كلمات كلمات كلمات. ثمَّ الجزء الثالث، والذي سيشمل خواتم أُنسي الحاج، وسيكون أيضًا في مجلَّدَيْن (خواتم 1+2) والجديد هو (خواتم 3) … بعدها سيكون الجزء الأخير، والذي أسميناه: الترجمات”.
ويتابع الناشر في مقدمته عن سبب نشر أعمال أنسي الحاج الكاملة الآن، فيقول: “شكَّل أُنسي الحاج حالة نادرة في تاريخ الشِّعْر العربي، مثل طفرة جِينية من داخله، لكنه ربَّما جاء في الزمن الخطأ أو قبل أوانه أو بعده. لا يمكننا التثبُّت من ذلك، ولكنَّا نحلم مثلما كان يحلم هو، لذا نُعيد نشر أعماله الآن، وأملنا أن نلفتَ انتباه الأجيال الجديدة لها وله، أنسي الحاج شعلة النار التي اتَّقدت في ستِّينيات القرن الماضي، والتي لا تزال متوهِّجة تحت أوراق الخريف. لعلَّنا نجد جوابًا عن سؤاله: “أمامَ أمواجِ السُّمِّ التي تُغرِقُ كلَّ محاولةِ خروجٍ، وتكسرُ كلَّ محاولةٍ لكسرِ هذه الأطواقِ العريقةِ الجذورِ في السُّخف، أمامَ بعثِ رُوحِ التَّعصُّبِ والانغلاقِ بعثًا مُنظَّمًا شاملًا، هل يُمكنُ محاولةٌ أدبيَّةٌ طَريَّةٌ أنْ تتنفَّس؟”.
ضم المجلد أيضًا، بيوغرفي مطولًا عن الشاعر بعنوان أنسي الحاج شاعرًا وناثرًا، نقتطف منه:
“كان الشِّعْر العربي في العام 1960 لا يزال يعيش ثورة النظام التفعيلي، وكانت النزعة القومية العربية والسورية والوطنية، تدعو إلى الشِّعْر الملتزم رمزيًا وجماهيريًا، عندما اكتشف أنسي الحاج قصيدته الجديدة، قصيدة النَّثْر المُشبَعَة بما يُسمِّيه بودلير “الطاقة الموسيقية” و”المادَّة النغمية” و”حركات النفس”. اكتشف أنسي الحاج حينذاك اللغة المغرقة في الجحيم الديونيزي وفي “الجمالية المتشنِّجة”، اللغة النقية والغريبة، المضطربة والصافية، اللغة التي تتناغم فيها المتناقضات، وتتآلف فيها عناصر الحياة والحلم، الخارج والباطن. غير أن هذا الشاعر المتمرِّد على الماضي المندثر والقِيَم الثابتة، عرف كيف يكون خير وارث للمدرسة الجمالية التي كانت نشأت في المقلب الأخير لعصر النهضة. وعرف أيضًا كيف يجمع بين لحظة الهدم ولحظة البناء، ناسجًا عالمه الجديد، بحسب ما تفترض المخيِّلة الخلَّاقة واللعنة المقدَّسة والتناغم الخفيّ”.
أخيرًا، جاء المجلد في 544 صفحة من القطع الوسط، وضم صورة فوتوغرافية صورها جورج سيميرجيان للشاعر، وأخرى من تصوير أنطوان بارود وظل، مع الأسف، مصور صورة الشاعر وهو يقرأ الشعر، مجهولًا. كما وخص الشاعر الفلسطيني رائد وحش الكتاب بتخطيطات رسمها مستوحاة من قصائد الشاعر.
من الكتاب
اسمحْ لي، يا الله
أن أتذكَّرَ خطيئتي
أنْ أتذكَّرَ عن جميعِ آبائي
أنْ أتعَذَبَ نَدَمَهُم وأنهارَ تَوْبَتِهِم
أمامَ حبيبتي.
يا حبيبتي.
أوانُ العدلِ يكتملُ فيكِ، فليفتَحُوا العيد
الحياةُ كُلُّها تركعُ فيَّ عندَ قَدَمَيْكِ
أختصِرُ إليكِ توبةَ الزَّمانِ، وأسجدُ إليكِ طاعةَ الأعمار
وأغسِلُ عَتَبةَ بابِكِ بدُمُوع الخليقة.
أنا هو الشَّيطانُ، أُقدِّمُ نفسي:
غَلَبَتْني الرِّقَّة.
*الترا صوت