غالبية عظمى من جمهور المناضل والفنان اليوناني الكوني الكبير ميكيس ثيودوراكيس (1925-2021) تعشق المعزوفة الأشهر، التي رافقت الرقصة التي لا تقلّ شهرة، في فيلم مايكل كاكويانيس «زوربا اليوناني» 1964 المستمدّ من رواية نيكوس كازنتزاكيس التي كانت قد صدرت سنة 1946 بعنوان «حياة وأزمنة ألكسيس زوربا». وهم على حقّ في هذا العشق، بالطبع، لأنّ فرادة المعزوفة تضافرت على نحو فذّ مع لغة الجسد الساخنة والحسية والحيوية في الرقصة، ولم يكن ينقص المزيج سوى شخصية ممثل كبير من عيار أنتوني كوين كي يستحق الخلود في النفوس على امتداد العالم.
البعض، من محبّي ثيودوراكيس دائماً، يساجل بأنّ لمسات كاكويانيس البصرية/ السينمائية حجبت شيئاً من الفتنة العارمة التي تتسم بها الموسيقى في الأصل؛ الأمر الذي يختلف، كما يناقشون، عن موسيقى أفلام «إلكترا» و»يوم طفا السمك» و«الطرواديات» و«إفيغينيا» من إخراج كاكويانيس نفسه، أو فيلمَي كوستا غافراس «Z» و«حالة حصار» أو فيلم سدني لوميت «سيربيكو». ثمة، هنا، وجهة نظر جديرة بالتأمل من زوايا عديدة مختلفة، لعلّ في طليعتها ذلك الامتزاج الفريد بين الموسيقى والرقصة في «زوربا» وكذلك نزوع ثيودوراكيس نحو الجملة الموسيقية الراقصة ذات المحتوى الإيروتكي والاحتفالي والباخوسي (نسبة إلى إله الخمر في الميثولوجيا الإغريقية).
لبعض الآخر (وهذه السطور تزعم الانتماء إليهم، ربما بسبب من انحياز مزمن إلى الشعر!) يساجل بأنّ واحدة من الذرى الكبرى في تراث ثيودوراكيس، الذي اشتمل على أعمال رفيعة في السيمفونية وموسيقى الحجرة والباليه والأوبرا والكورال والأناشيد والأغاني وموسيقى المسرح والسينما؛ ذاك الذي اختار فيه إعادة إنتاج قصائد بابلو نيرودا «أغنية عمومية» وامتدّ تأليفها الموسيقي والكورالي بين سنوات 1973 وحتى 1981. ولا عجب في أنّ الفنان اليوناني الكبير استغرق كلّ هذا الوقت لاستكمال أربعة أقسام («نباتيات» «المحرِّرون» «أمريكا المنتفضة» و»تجيء العصافير») من قصيدة مطوّلة كانت مجموعة نيرودا الشعرية العاشرة، وكُتبت بين أعوام 1938 وحتى 1950، وتألفت من 150 قسماً، و231 قصيدة، وأكثر من 1500 بيت.
ولقد شاءت حظوظ سعيدة أن ألتقي بالمناضل والفنان الكبير مرّتين، كانت الأولى في سنة 1998 حين استقبلنا في بيته وفي مكتبه المطلّ على الأكروبول، صحبة عدد من الأصدقاء الشعراء المتوسطيين والعرب العائدين من مهرجان كافالا الشعري؛ فاستمعنا من هذا الإغريقي العتيق إلى رؤية فلسفية متكاملة، وتراجيدية أيضاً، تلخّص حال الجدل العنيف الذي تعيشه الشخصية اليونانية بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها. «الشرق روح العالم، والغرب جسده» قال ثيودوراكيس، قبل أن يضيف: «معضلة اليوناني تكمن في أنّ روحه شرقية نابضة بالحياة والفتوّة، وجســـــده غربي مشوّه مكبّل بأثقال حضارة غربية، أمريكية وأنغلو – ساكسونية، لا صلة تجمعها البتة بجوهر الإرث الهيلليني».
اللقاء الثاني كان في سنة 2005 على هامش مشاركتي في ندوة فكرية حول رحيل إدوارد سعيد، أقامتها الجالية الفلسطينية في اليونان بالتعاون مع دار النشر «نيفيلي» وكلية العلوم السياسية في جامعة بانديوس؛ ويومها كان ثيودوراكيس يتعرّض لحملة صهيونية شعواء بسبب تصريحات أطلقها بمناسبة صدور مجلدات سيرته الذاتية «كيف أعثر على روحي؟». يومها تمنيت زيارة ثيودوراكيس مجدداً، ليس للتضامن معه فحسب، بل أساساً للاستزادة من رؤاه حول اليونان والعالم؛ وتمّت الزيارة بالفعل بترتيب من الصديق الدبلوماسي والمثقف الفلسطيني عصمت صبري، الذي رافقني صحبة صديقنا الصحافي الفلسطيني محمود خزام.
فما الذي قاله ثيودوراكيس حتى انهالت عليه الاتهامات، وفي رأسها «العداء للسامية» بالطبع، ووُضع في خانة واحدة مع هتلر وغوبلز وفاغنر ومهاتير محمد (نعم!) وبُذلت جهود ممنهجة منظمة لتلويث سمعته وتحطيم اسمه وتدمير أعماله الخالدة؟ هنا أمثلة على تلك التصريحات: «نحن وحيدون. لكن ليس لدينا تعصّب اليهود واكتفاؤهم بذاتهم معرفياً»؛ «التعصب لديهم يجعلهم يتدبرون أمورهم. واليوم في وسعنا القول إن تلك الأمّة الصغيرة هي أصل الشر وليس الخير، الأمر الذي يعني أن الكثير من الاكتفاء بالذات معرفياً والكثير من العناد يسببان الأذى» و«لدينا شخص في قامة بيركليس هنا. هل تتخيلون ما الذي يمكن أن يفعله الإغريق لو كانت لديهم نزعة العدوان التي عند اليهود؟ ذلك هو السبب في أننا نسترخي. ولهذا نخجل أن نقول مَن نحن».
وللذين يمكن أن يفاجئهم العيار الثقيل في تلك التصريحات، يتوجب أن يأخذوا بعين الاعتبار حقيقة مواقف الرجل من دولة الاحتلال الإسرائيلي والحقوق الفلسطينية؛ أو مواقفه من سياسات الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في أفغانستان والعراق بصفة عامة. لقد قارن على الملأ، أمام تظاهرات حاشدة ضاقت بها شوارع أثينا وتسالونيكي، بين أرييل شارون والنازية؛ وأطلق على الجيش الأمريكي صفات الوحشية والبربرية، وقبلها سافر إلى بلغراد لكي يعزف تحت وابل القصف الأطلسي. كذلك تستحق أن تُدرج في قلب الحملة الشعواء تلك الكراهية المسبقة التي يحملها الصهاينة للرجل وفنّه، والتي تتجاوز السياسة إلى تاريخ اليونان وثقافته وفلسفته و… مطبخه، أيضاً!
الأرجح أنّ الفنان الكبير أغمض عينيه للمرة الأخيرة على أطياف شروق الشمس وغروبها فوق الأكروبول، ولسان حاله يستعيد أطروحته الثاقبة: روح اليوناني الشرقية أدامت حيويته وعافيته، وجسده الغربي ألحق به السقم والوهن.
*القدس العربي