عن هارولد بلوم (1930 ــ 2019)، الناقد الأمريكي الكبير الذي غادر عالمنا قبل أيام، تُروى النكتة التالية: ذات يوم اتصل به أحد طلاب الدراسات العليا، فأخذت الهاتف زوجة بلوم واعتذرت لأنّ الأستاذ مشغول في تأليف كتاب، فردّ الطالب: لا بأس سيدتي، أستطيع الانتظار حتى يفرغ! وبالطبع، لم تكن النكتة تتقصد النيل من خفّة بلوم في التأليف، بل كانت تطري غزارة إنتاج مقترنة بسويّة عالية في المحتوى، وفي نطاق التغطية النقدية أيضاً.
وليس غريباً، والحال هذه، أنه رحل وقد خلّف 40 كتاباً في موضوعات شتى، قد يكون أبرزها «هاجس التأثير»، 1973؛ و«خريطة القراءة العاثرة»، 1975 (نقلهما إلى العربية الشاعر والأكاديمي السوري عابد إسماعيل تحت عنوانًيْ «قلق التأثير» و«خريطة للقراءة الضالة»)؛ و«موروث الغرب»، 1994؛ و«شكسبير: اختراع الإنسان»، 1998؛ فضلاً عن عشرات الكتب والسلاسل التي أشرف بلوم على تحريرها. وقد يصحّ القول إنّ أحداً من كبار المشتغلين بالنقد والنظرية الأدبية لم ينجُ من اتفاق هنا أو اختلاف هناك مع آراء «شيخ النقاد» هذا؛ على امتداد مسار نقدي طويل امتدّ على أكثر من ستة عقود، بدأ سنة 1959 من أطروحته للدكتوراه حول الدفاع عن الرومانتيكيين في شخص الشاعر الإنكليزي شيللي، وانتهى سنة 2019 مع مذكرات فاتنة بعنوان «ممسوس بالذاكرة: ضوء النقد الداخلي».
في «موروث الغرب»، 578 صفحة، تناول بلوم التراثات الأدبية الغربية ومصائر الأعمال الإبداعية، وكان شجاعاً كعادته حين أشار إلى أنّ الغرب يقوم بتدمير المعايير الفكرية والجمالية في الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية؛ وثمة «بَلْقَنة» للدراسات الأدبية، على يد مدارس نقدية مثل النسوية واللاكانية (نسبة إلى المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان) والتاريخانية الجديدة والتفكيكية والسيميائية. لم يكن بلوم قد بلغ السبعين حين نطق بهذه الآراء، ولكنه في كلّ حال كان في منتصف العقد السادس، ولاح أنّ هذه الآراء تردّد أصداء موقف رجعي محافظ، غريب تماماً عن روحية الترحيب السابقة التي طبعت مواقفه من الفلسفة الأوروبية، ومن المدرسة التفكيكية بصفة خاصة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ حصّة الأدب العربي من ذلك الموروث، وفي إطار القرن العشرين حصرياً، كانت أربعة كتّاب (طه حسين، نجيب محفوظ، أدونيس، محمود درويش)؛ مقابل 14 كاتباً في اللغة العبرية (بينهم كبار أمثال حاييم بياليك وإيهودا عميحاي، وأسماء أقلّ شأناً مثل دان باجيس وناتان زاخ). وقد يكون هذا التفضيل، غير المتوازن وغير المنصف في أقلّ تقدير، راجعاً إلى عوامل ثقافية وتربوية تخصّ تفتّح بلوم على التراث العبري، إذْ كان من عائلة يهودية روسية مهاجرة؛ وكذلك تأثره العميق بفلسفة وأفكار المتصوف اليهودي المقدسي إسحق لوريا، الذي عاش في القرن السادس عشر وكان في عداد أبرز المبشّرين بتعاليم التصوّف القبلاني.
وعلى سيرة القدس، كان بلوم موضوع مراجعة نقدية مبكّرة بعنوان «الشاعر في إهاب أوديب»، نشرها إدوارد سعيد في صحيفة «نيويورك تايمز»، سنة 1975، وتناولت كتاب «خريطة القراءة العاثرة»؛ حيث لم يخفِ سعيد إعجابه الشديد بهذا «الناقد النادر» الذي يقوّض واحدة من القلاع الكبرى في الأرثوذوكسية النقدية، تلك القائلة بأنّ النصّ هو أرض الأدب، والمؤلّف هو الأب الوحيد: «وحده الكاتب الكبير هو الذي يتحدّى قلعة اليقين تلك. ولسوف يرى أنّ الأب نفسه ليس سوى ابن؛ ولسوف يرى أيضاً أنّ عمله يحتاج إلى حماية ليس من الكتّاب الذين سيجيئون بعده فحسب، بل من الكتّاب الذين سبقوه، والذين يذكّرونه بقوّتهم وبسلطتهم السابقة عليه، وبموقعه التالي في خطّ السلالة».
آنذاك كان سعيد في الأربعين من عمره، يعيش اعتمالاً نظرياً عارماً سوف يسفر عن صدور «بدايات: القصد والمنهج»، 1975، كتابه النقدي الأهمّ (في نظر كاتب هذه السطور)؛ و«الاستشراق»، 1978، كتابه الأشهر والأخطر في ميدان الدراسات الثقافية. بلوم، من جانبه، كان الناقد الأمريكي الأكثر إحاطة بالشعر المكتوب بالإنكليزية، الكلاسيكي منه والحديث، فضلاً عن معرفته المبكّرة والمعمقة بمعظم النظريات الطليعية الأوروبية في النقد والنظرية الأدبية والفلسفة. وإلى هذا وذاك، كانت نظريته الأساسية حول هاجس التأثير والتأثر تستدعي نقاشات واسعة، وتعيد التشديد على سجالات قديمة لاح في فترات عديدة، ومتباعدة، أنها طُويت أو استقرّ الرأي فيها نهائياً.
ولعلّ ما جذب سعيد إلى نظرية بلوم كان أنها، في الجوهر، تشكك في مبدأ استقرار النصوص والكتّاب، بل وتهدد نظام الثقافة بأسره في الواقع؛ وهو الخيار الذي لن يطول الزمن حتى ينهمك فيه سعيد نفسه، وتتبلور خطوطه النظرية والتحليلية في «الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية». وبذلك قرأ سعيد نظرية بلوم حول هاجس التأثير، السابق والمقبل الذي يقف خلف العمل الشعري، هكذا: «الماضي يصبح تدخّلاً نشطاً في الحاضر، والمستقبل يصبح صورة عن الماضي في الحاضر، على نحو منافٍ للمنطق الطبيعي. ما من نصّ يمكن أن يكون تاماً لأنه من جانب أوّل محاولة للتحرّر من نصّ سابق يضغط عليه، وهو من جانب ثانٍ تهيئة ذاتية لمقارعة النصوص التي لم يكتبها بعدُ مؤلفون لم يولدوا بعد».
وعلى نحو ما، كانت تاريخية النصّ تُثقل على مخيّلة المهاجرَين معاً، الروسي والفلسطيني؛ ليس دون هاجس للذاكرة، ضاغط واستحواذي.
*المصدر: القدس العربي