في يوم ميلاده، الذي يصادف 11 كانون الأول (ديسمبر) يُستعاد نجيب محفوظ (1911 ـ 2006) ليس كواحد من كبار معلّمي فنّ الرواية في القرن العشرين، والروائي العربي الأهمّ والأبرز حتى إشعار طويل كما يلوح، فحسب؛ بل كذلك، في تقدير هذه السطور، كنموذج رفيع على «هاجس التأثير» في ميادين السرد المختلفة، من الثلاثيات إلى الأعمال المنفردة الطويلة أو القصيرة، وصولاً إلى القصة القصيرة. وكما هو معروف، كان الناقد الأمريكي الراحل هارولد بلوم قد أصدر، في سنة 1973، كتابه الرائد «هاجس التأثير» ونهضت أطروحته الرئيسية على علاقات التأثّر والتأثير في ميدان الشعر أساساً، وأنّ النصوص الكبرى محاولات للتحرّر من نصوص أكبر سابقة وضاغطة، بقدر ما هي أيضاً استعدادات مسبقة لمحاورة/ مقارعة نصوص سوف يكتبها شعراء لم يولدوا بعد.
وفي حدود ما تعلم هذه السطور، كان الناقد المصري الراجل رجاء النقّاش أوّل من التقط هذا الخيط في علاقة محفوظ بالروائيين العرب في زمنه، المجايلين له أو الكهول أو الشباب الأصغر سنّاً؛ حتى إذا كان النقّاش لم يقصد هاجس التأثير بالمعنى الذي سيأتي عليه بلوم لاحقاً، أو كان بالأحرى سبّاقاً إلى السجال ذاته لأنه كتب حوله في سنة 1969، قبل أربع سنوات من نشر كتاب الناقد الأمريكي. وقد سارت مساهمة النقّاش عبر ثلاث مقالات، جاء عنوان الأولى لافتاً، وصادماً لدى الكثيرين في الواقع: «هل أصبح نجيب محفوظ عقبة في طريق الرواية العربية؟»؛ وتمحورت أطروحتها السجالية حول التالي: «لقد أصبح نجيب محفوظ بالنسبة للجيل الجديد حقيقة أدبية صلبة، وأخشى أن أقول إنه أصبح حقيقة مخيفة، وأصبح الكثيرون من أبناء الجيل الجديد يبتعدون عن ميدان الرواية على أساس أنهم لن يستطيعوا أن يقدّموا أفضل مما قدّم نجيب محفوظ. أما إذا غامر أحدهم فكتب رواية فهو لا يستطيع أن يفلت من تأثير نجيب محفوظ، والنتيجة هي أن يقدّم عملاً لا يعدو أن يكون تقليداً ضعيفاً لفنّ نجيب محفوظ».
كان في الأطروحة الكثير من الجسارة النقدية والأخلاقية، واختلطت فيها مقادير متوازية من الصحّة والمبالغة؛ فالرواية العربية، مشرقاً ومغرباً وفي مصر على وجه التحديد، شهدت ولادة الكثير من النماذج اللامعة والمتميّزة في اللغة والمحتوى والأشكال، حتى إذا كانت قامة المعلّم محفوظ قد واصلت الامتداد عالية وآسرة ومؤثِّرة. لكنّ فضيلة الأطروحة لم تقتصر على التذكير بميزان قَلِق من التأثّر والتأثير بين المعلّم وبنات وأبناء الأجيال المصرية والعربية المختلفة، بل كانت أقرب إلى نذير نقدي يحثّ على التطوير والتغيير والتجاوز، وعلى أخذ منجز المعلّم بعين الاعتبار الأكبر لكن دون تحويله إلى عقبة. وكان النقّاش قد ضرب مثالاً في رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» وكتب عنها مرحّباً من زاوية أنها نموذج على إمكانية العبور إلى ما بعد محفوظ، وحين تناهى إلى الروائي السوداني أنّ الناقد المصري يعتبره عبقرياً في هذه الرواية، هتف يقول: «عبقري مين يا عم، هو فيه عبقري غير نجيب محفوظ!».
وفي مقال بعنوان «ما بعد محفوظ» 1988 كانت للأسف المادّة اليتيمة التي كرّسها بصفة جزئية لفنون محفوظ الروائية، تساءل إدوارد سعيد حول مستقبل حضور الروائي المصري الكبير في خريطة الرواية العربية الحديثة والمعاصرة، وما إذا كان محفوظ نفسه سوف يواصل مسارات تطوير فنّه أم سيخلد إلى صمت أو سكينة على غرار ما فعل في منعطفات وطنية أو شخصية سابقة؛ وهل، تالياً، سوف تتجاوزه النتاجات الروائية في مصر أوّلاً، وعلى النطاق العربي تالياً؟ وبصرف النظر عن الإجابات المركّبة التي استبطنها سعيد في مقالته تلك، ولم تقتصر على الـ»نعم» والـ»لا» بل اتخذت السمات الجدلية التي تحلى بها الناقد والمفكر الكبير الراحل؛ فإنّ أعمال محفوظ التي أعقبت نوبل وتساؤلات سعيد برهنت أنّ المعلّم ليس البتة مستكيناً ولا ساكناً، فلا هو عرقل دروب تطوير الرواية العربية، ولا هو تعرقل أو تقهقر بسبب أيّ من الروائيين الراسخين في الفنّ، زملاء كانوا وأصدقاء أم تلامذة وحواريين.
كلّ هذا مع الإشارة إلى أنّ سعيد خالف الرأي الذي شاع سريعاً في الغرب، بعد حيازة نوبل بالطبع، وتوافق على أنّ محفوظ هو أونوريه دو بلزاك المدينة المصرية؛ إذِ رأى فيه نظيراً، وندّاً أيضاً، لكبار الرواية الغربية أمثال فكتور هيغو، إميل زولا، شارلز دكنز، جون غالزورذي، توماس مان، وجول رومان. مع الإشارة، كذلك، إلى تفصيل محزن يفيد بأنّ سعيد لم يجد الفرصة لقراءة «ملحمة الحرافيش» 1977 تحفة المعلّم في أطوار ما بعد «الثلاثية» 1956 – 1957 و»أولاد حارتنا» 1959؛ وما قبل «رحلة ابن فطومة» 1983 و«حديث الصباح والمساء» 1987 بوصفها معالم أسلوبية بارزة في فنّ محفوظ الروائي الخصب والتعدّدي.
ولعلّ أحد أفضل معايير القياس، في إقامة الميزان بين التأثير والتأثّر، هو الإقبال الهائل الذي تتمتع به أعمال محفوظ لدى القارئ العربي، حتى بعد 15 سنة أعقبت غيابه عن الإسهام في إغناء المشهد؛ وتلك، في كلّ حال، سنّة الكبار وديدن أهل الخلود.
*القدس العربي