آنليس ماري فرانك، أو آن فرانك (1929-1945) كما تُعرف عالمياً، هي الصبية اليهودية الألمانية الهولندية وإحدى أشهر ضحايا المحرقة النازية، صاحبة اليوميات المعروفة التي تغطي فترة الاختباء بين 1942 و1944 حين اعتُقلت في أمستردام وسيقت إلى أوشفتز ثمّ بيرغن- بيلسن حيث توفيت. ربّ الاسرة، أوتو فرانك، نجا من الموت وبعد أن وضعت الحرب أوزارها عاد إلى أمستردام واكتشف مذكرات ابنته فعمد إلى نشرها؛ وهكذا ظهرت بالهولندية أولاً، ثم تُرجمت إلى الإنكليزية في سنة 1952، وحتى الساعة يلوح أنها نُقلت أيضاً إلى 70 لغة.
فرانك انقلبت، كما للمرء أن يفهم بسهولة، إلى أيقونة كبرى ليس في صدد عذابات اليهود خلال أطوار الهولوكوست ومعسكرات الاعتقال المختلفة، فحسب؛ بل كذلك من زاوية نظر خاصة لصبيّة في مقتبل مراهقتها تراقب العالم الخارجي من ثقوب المخبأ، وتتعقب تفتّح مداركها العقلية والعاطفية والجسدية عبر أستار الاختفاء. ورغم مئات الموادّ التي كُرّست لتغطية جوانب شتى في تجربتها الفريدة هذه، وبينها أفلام وتحقيقات واستقصاءات سعت إلى توثيق ما أمكن توثيقه من ظروف اختبائها واعتقالها ووفاتها، إلا أنّ سرّاً واحداً كبيراً ظلّ عصياً على الانكشاف: هوية الواشي الذي خان فرانك وأسرتها، وأبلغ الغستابو عن المخبأ. ولقد توفّرت مؤخراً مادّتان في سياق البحث عن إجابة، أو إجابات: مادّة أولى من مخرج الأفلام التسجيلية الهولندي تيس باينس، وزميله الصحافي الهولندي بيتر فان تويسك، اللذين تعاونا مع محقق الـFBI الأمريكي المتقاعد فنسنت بانكوك، لإنتاج شريط وثائقي؛ ومادّة ثانية من المؤرّخة الكندية روزماري سوليفان، التي تعاونت مع هؤلاء وأنجزت كتابها «خيانة آن فرانك»، وصدر بالإنكليزية عن هاربركولنز السنة الماضية.
لكننا نشهد هذه الأيام هبّة غضب ساحقة ماحقة ضدّ الثلاثة، يقودها «المؤتمر اليهودي الأوروبي»، الذي يقود من بروكسيل 42 جالية عالمية مختلفة ويُعتبر المظلة الأهمّ التي ترعى شؤون اليهود في الغرب خاصة، وعلى امتداد العالم بأسره أيضاً. ولقد نجحت المنظمة، حتى الساعة على الأقلّ، في إحراج الناشر الأمريكي الذي بات يضرب أخماساً بأسداس قبل دفع المزيد من النسخ إلى المكتبات؛ وأمّا الناشر الهولندي فقد تقدّم باعتذار رسمي وعلني، والتزم علانية أيضاً بتخفيض كميات النسخ المرسلة إلى الأسواق، في انتظار… مراجعة الكتاب. معرفة السبب تُبطل العجب بالطبع، إذْ أنّ رباعي التحقيق، السينمائي مثل الصحافي ومحقق الـFBI أسوة بالمؤرخة، توصلوا إلى قناعة عالية الترجيح تفيد بأنّ الواشي كان يهودياً يدعى أرنولد فن دين بيرغ، وأنه قايض الوشاية حول مكان اختباء عائلة فرانك بإعفاء أسرته من الترحيل إلى معسكرات الاعتقال.
قارئ الكتاب، أياً كان اتفاقه مع سرديات الهولوكوست أو افتراقه عن بعضها أو قراءة عذابات اليهود خلال الرايخ الثالث، لن يجد كبير عناء في تصديق الكثير من الحجج التي تسوقها المادتان، صوب إدانة فان دين بيرغ تحديداً؛ كما أنّ القارئ ذاته لن يختلف في الجوهر مع تأكيد مركزي لم يتردد الأربعة صنّاع التحقيق في تأكيده: «لقد حققنا في 30 من أسماء المشتبه بهم ووضعناهم في 20 سيناريو، فلم ننته إلا إلى السيناريو الأكثر ترجيحاً»، كما يقول المخرج الوثائقي؛ الذي لا يتردد في القول، مراراً وتكراراً: «لسنا على ثقة بمعدّل 100%». ثمة تلك الوثيقة الصارخة، التي كُشف النقاب عنها مؤخراً فقط: رسالة من مجهول إلى الوالد فرانك، تشير بالاسم إلى الواشي فن دين بيرغ، فضّل فرانك كتمانها خشية أن تحرّض على المزيد من مناخات العداء للسامية؛ وثمة السياقات الفعلية لمصير أسرة الواشي، وعلاقاته التجارية والمالية مع وسطاء مقرّبين من الغستابو؛ وثمة تفاصيل مذهلة توصّل إليها المحقق الأمريكي بانكوك، واعتمدت أحدث تقنيات التحقيق وطرائق تقاطع المعلومات، خاصة وأنّ هذا المحقق كان وراء تفكيك كارتل المخدرات الكولومبي الشهير.
حبل التنكيل الذي يمكن لـ»المؤتمر اليهودي الأوروبي» أن يمدّه في خنق التحقيق، الشريط الوثائقي مثل الكتاب، سوف يظلّ قصيراً مهما أطالته مجموعات الضغط اليهودية، أو تلك الصهيونية في تحديد أكثر؛ لأسباب شتى تخصّ الشروط الراهنة للبحث في تاريخ أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية خصوصاً، ولكن أيضاً لسبب جوهري هو أنّ أياً من الأربعة المشاركين في التحقيق يصعب اتهامه بالعداء للسامية، أو أنّ العكس هو الصحيح بالأحرى. وأمّا من جهة أخرى، قد تكون أخطر وأشدّ أهمية وأبعد وقعاً على الضاغطين، فإنّ تاريخ العلاقات بين الحركات الصهيونية والفلسفتَيْن الفاشية والنازية يظلّ واحداً من أشدّ حلقات التاريخ الصهيوني إثارة، وأكثرها انطواء على أسرار كبرى، لم يُكشف النقاب إلا عن مقدار قليل منها كما يرجّح المؤرّخون… الإسرائيليون أنفسهم، وليس العرب أو «المراجعين» أو مناهضي الصهيونية على اختلاف مشاربهم الفكرية ومناهجهم البحثية. هذا إذا وضع المرء جانباً حقائق مذهلة عن التعاون المباشر بين أجهزة الغستابو والمنظمات والقيادات والأجهزة الصهيونية المختلفة، على خلفية مقايضة سماح الألمان بالهجرة اليهودية إلى فلسطين بالتواطؤ على هذا او ذاك من ملفات ترحيل اليهود إلى معسكرات الاعتقال.
ومَن خان آن فرانك ليس سؤالاً ممتنع الإجابة، استطراداً؛ بقدر انطوائه على إضافة الإهانة إلى جرح العذاب.
*القدس العربي