15 من شاغلي المسؤوليات العليا في منظمات الإغاثة الإنسانية، الأممية والعالمية، توجهوا بنداء عاجل إلى «السادة المانحين»، يطلبون فيه تقديم مساعدات مالية فورية على خلفية انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد؛ لأنّ «الآن هو أنسب وقت للتكاتف لوضع حدّ للمعاناة التي يمكن تفاديها والوفاء بوعدنا الذي قطعناه بتوفير مستقبل أفضل للجميع»، حسب الترجمة الرسمية للبيان كما نشره موقع «برنامج الأغذية العالمي». في عداد الموقعين يعثر المرء على منسق الإغاثة في حالات الطوارئ ووكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، ومفوّض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، والمدير التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، ومدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والمدير العام لمنظمة الصحة العالمية، والمدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، والمدير العام للمنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، والمدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة للسكان، والمفوض السامي لحقوق الإنسان، والمدير التنفيذي للمجلس الدولي للوكالات التطوعية، والمدير التنفيذي لشركة «إنترأكشن»، والمقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان للنازحين داخلياً، والأمين العام للاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر.
بين هؤلاء أيضاً دافيد بيزلي، المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، الذي يُذكر هنا بالاسم وعلى نحو منفرد لأنه مولع بالبلاغة، وحسّ المناشدة الحارّ، و«إذكاء الوعي العام من أجل مكافحة الجوع في العالم» كما تقول إحدى فقرات سيرته الرسمية. وهو، إلى هذا، مواطن أمريكي ينتمي إلى الحزب الجمهوري، وقد انتُخب عضواً في مجلس ممثلي ولاية كارولاينا الجنوبية وهو طالب جامعي في سنّ 21، كما تولى موقع حاكم الولاية بين 1995 و1999؛ وفي أواخر آذار (مارس) المنصرم أعلن أنه مصاب بفيروس كورونا.
ومؤخراً أطلق بيزلي تصريحاً لافتاً، خلال اجتماع عبر الفيديو مع مجلس الأمن الدولي، اعتبر فيه أنّ العالم على شفا «جائحة مجاعة» إلى جانب جائحة كورونا، وقد يواجه سلسلة مجاعات على «مقاسات توراتية» خلال الأشهر القليلة المقبلة إذا لم تتحرك الأمم الآن لتلافي النقص في التمويل وانقطاع التبادلات. ثمة 821 مليون آدمي يأوون إلى فراشهم كلّ ليلة وهم يعانون من جوع مزمن، وثمة 135 مليون آدمي إضافي يصارعون أزمات مجاعة مختلفة الأبعاد، وأمّا كورونا فإنها تهدد بإضافة 265 مليون جائع إلى اللائحة…
انساق بيزلي خلف البلاغة في الربط بين التوراة والمجاعة، ساعياً إلى تهويل الحال والحثّ على التحرّك أغلب الظنّ؛ لولا أنّ اللجوء إلى هذه الاستعارة تحديداً قد يستحثّ حساسية ثقافية لدى حشود الجائعين أنفسهم، في المقام الأوّل. سفر «التكوين» يتحدث عن «سبع سنين جوعاً. فيُنسى كلّ الشبع في أرض مصر ويُتلف الجوع الأرض. ولا يُعرف الشبع في الأرض من ذلك الجوع بعده. لأنه يكون شديداً جداً»، ويشمل «أرض كنعان» أيضاً. وفي سفر «الملوك الأول» يتضرع سليمان إلى الربّ كي يقي «جماعة إسرائيل» الذين أخطأوا من عواقب «جوع» و«وباء» و«لَفَح» و«يرقان» و«جراد جردم». وفي «إرميا» يقول ربّ الجنود: «ها أنذا أعاقبهم. يموت الشبان بالسيف ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع. ولا تكون لهم بقية…».
مجاعات التوراة مختلفة كلّ الاختلاف، إذن، عن مجاعات العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين؛ ليس في ذروة العولمة وانتصار الرأسمالية واقتصاد السوق و«نهاية التاريخ»، كما بُشّرنا مراراً وتكراراً؛ بل في واحدة من ذرى نقائض هذه كلها، وسواها، التي تقاطرت تباعاً في الواقع، منذ الأزمة المالية الكونية لعام 2008، وقبل جائحة كورونا بسنوات. بيزلي، ذو المزاج التوراتي الإنجيلي الواضح، يدرك جيداً أنه كلما انقضت ثلاث ثوانٍ ونصف من زمن البشرية المعاصرة، يموت شخص جوعاً، تحديداً، أي ليس بسبب المرض أو الكوارث الطبيعية؛ وفي صفوف الأطفال، حسب إحصائيات الـ«يونيسيف»، يموت 22 ألف طفل يومياً: «بصمت، في بعض أكثر قرى البسيطة فقراً، بعيداً عن مرأى الضمير العالمي». أرقام أخرى تقول إنّ مليار آدمي يعيشون على أقلّ من 1,25 دولار يومياً، وقرابة 2,56 مليار على أقلّ من دولارَيْن، و5,05 مليار (أكثر من 80٪ من تعداد سكان العالم) على أقلّ من 10 دولارات. في المقابل، أقلّ من 1٪ ممّا ينفقه العالم على التسلّح كلّ سنة، كان يكفي لتأمين المدارس لكلّ أطفال العالم الأمّيين، وذلك منذ سنة… 2000!
تلك، بالطبع، هي السنة الشهيرة التي شهدت دخول الإنسانية في ألفية جديدة، وخلالها عقدت منظمة الأمم المتحدة القمّة الكونية المعروفة، التي تبنّت إعلاناً هائل الطموح، يهدف إلى تخفيض معدّل الفقر العالمي إلى النصف، عند حلول السنة 2015. الأغراض الأخرى، التي ستُعرف باسم «الأهداف الإنمائية للألفية»، تضمنت القضاء على الفقر المدقع والجوع، وتحقيق تعميم التعليم الابتدائي، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وتخفيض معدّل وفيات الطفل، تحسين الصحة النفاسية (الرعاية قبل الولادة، وتنظيم النسل…)، ومكافحة فيروس نقص المناعة، وكفالة الاستدامة البيئية (شؤون فقدان الموارد، وفقدان التنوّع البيولوجي، وربط التنمية المستدامة بسياسات طويلة الأجل…)، وإقامة شراكة عالمية.
كانت تلك حزمة كبرى من الأهداف السامية، ومن أجل رصد نتائج تحقيقها على الأرض بادر بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة يومذاك، إلى دعوة أكثر من 140 رئيس دولة وحكومة إلى اجتماع «رفيع المستوى»، تحت لافتة تعلن أنه «لا يوجد مشروع عالمي أكثر قيمة من هذا»؛ كما تطالب: «فلنرسلْ رسالة أمل قوية. ولنفِ بالوعد». وبالفعل، تقاطرت الرسائل وتعاقبت، ومثلها تدافعت الوعود وتزاحمت: روبرت زوليك رئيس البنك الدولي أعلن مبلغ 750 مليون دولار لتحسين التعليم في بلدان الفقر المدقع، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي زاود عليه بـ 1,4 مليار دولار لـ»الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسلّ والملاريا»، ورئيس مفوضية الاتحاد الاوروبي جوزيه مانويل باروزو أعلن أنه يحاول تأمين مساعدة بقيمة 1,3 مليار دولار…
لكنّ السخاء ظلّ، كالعادة، إسمياً في المستوى العملي، وما خلا خمس دول فقط (السويد والنروج ولوكسمبورغ والدانمرك وهولندا)، لم تبلغ أيّ من الدول المصنّعة الكبرى معدّلات الحدود الدنيا المطلوبة منها للإسهام في تحقيق تلك الأغراض، أو الوقوف على عتبة ملموسة تضمن المسير على دروب تحقيقها. ذلك لأنّ الفقر سياسة، مثله في ذلك مثل الاقتصاد البسيط والاقتصاد المعقد والتنمية المؤقتة والتنمية المستدامة، ولهذا فإنّ تحقيق أيّ تقدّم في تنفيذ الأغراض الألفية ليس وثيق الارتباط بسياسات الدول والشعوب المعنية بالإنماء، فحسب؛ بل كذلك بسياسات الدول والشعوب التي تتعهد بالمساعدة على الإنماء. ولأنّ تلك الأغراض جُرّدت من السياسة على نحو مثالي (يرى الكثيرون أنه كان متعمداً، وجزءاً لا يتجزأ من شروط اللعبة بين الشمال الغنيّ والجنوب الفقير)؛ وجرى استسهال فصل الأنظمة عن برامج التنمية، وكأنّ المناخ السياسي الصحيّ ينطبق على الجميع؛ فإنّ تلك الأغراض لم تكن واقعية، وبالتالي كانت غير قابلة للتطبيق، أو لقطع أشواط واسعة في تطبيقها، على الأقلّ.
وهكذا فإنّ نداء السادة مسؤولي منظمات الإغاثة الإنسانية الأممية والعالمية لن يجد ما يكفي من آذان صاغية لدى «السادة المانحين»، الذين منحوا مناشدات كهذه آذاناً صمّاء طوال عقود وعقود، فكيف يمكن أن يصغوا اليوم وهم غارقون حتى آذانهم في هلع معالجة الجائحة؛ التي لم تميّز فقيراً عن غنيّ، وإنْ كانت قد ضربت، على نحو أشدّ، في بلدان التصنيع والجبروت العسكري والهيمنة السياسية ـ الاقتصادية، و… التخمة؟
*المصدر: القدس العربي