قد لا يختلف كثيرون حول مكانة الأديب الدنماركي هانز كريستيان أندرسن (1805ــ 1875) كأحد كبار مؤسسي قصة الأطفال بالمعنى الحديث للمصطلح، إنْ لم يكن الأبرز؛ خصوصاً في جوانب النضج الفنّي والسعة الرمزية والتمثيل الأخلاقي والمدلولات الإنسانية العريضة، وكذلك علم جمال الطفل وحسن مخاطبة وجدانه وعقله وروحه. وفي حدود ما أعلم، وفوق كلّ ذي علم عليم، لم يسبق أن تعرّضت شخصية أندرسن إلى تفكيك منهجي، في مستوى أخلاقيات الكتابة وأعراف التأليف تحديداً، كما يفعل المخرج وكاتب المسرح والمنتج الإرلندي البريطاني مارتن ماكدونا، في مسرحيته «مسألة مظلمة جداً جداً جداً»، التي عُرضت في لندن مؤخراً. إنه، باختصار شديد، يفترض أنّ الكاتب الشهير يدين بغالبية قصصه إلى امرأة سوداء من الكونغو تدعى مارجوري، ظلّ يحتجزها طوال 16 سنة في قفص؛ وكان يستمع إلى أقاصيصها، ثمّ يعدّل فيها على هواه.
ويسجّل ماكدونا أنه نبش طويلاً في سيرة أندرسن وبلغ هذه الخلاصة الفظيعة، التي تشير في يقينه إلى حصيلة أكثر رهبة، وجريمة أبشع أيضاً على صلة بتراث الاستعمار؛ مفادها أنّ مارجوري لم تتوقف يوماً عن التصميم على الفرار، والحلم باستقلال الكونغو! ومن جانب آخر، يساجل ماكدونا أنّ هالة التبجيل التي تحيط عادة بكبار الكتّاب (ومثاله الثاني هو البريطاني شارلز دكنز)، تخفي الكثير من الأسرار، بمعنى أنها تغطي على عيوب ومثالب وفظائع… وسواء اتفق المرء أو اختلف مع افتراض كهذا، فإنّ المعيار في أوّل الأمر سوف ينطلق من نجاح مخيّلة ماكدونا أو فشلها في صياغة عمل مسرحي رفيع ومقنع، والحكم في نهاية المطاف يتوجب أن ينطلق من سوية الفنّ وليس مقدار التطابق مع سجلّ السيرة ومعطيات التاريخ المدوّن.
والحال أنّ الثقافة الدنماركية لا تفاخر بالكثير من النجوم الذين طبقت شهرتهم الآفاق وقدّموا للإنسانية ذلك الطراز من القِيَم الكونية، التي تعبر بسهولة حدود البلد والنطاق المحليّ إلى رحاب عالمية شرقاً وغرباً. هنالك، مثلاً، الفيلسوف سورين كيركغارد (1813ــ 1855) صاحب التأثير العميق في الفكر اللاهوتي الحديث والفلسفات الوجودية. هنالك، كذلك، الروائية والقاصة كارين بليكسن (1885ــ 1962)، كاتبة العمل الشهير «خارج أفريقيا» الذي خلّده الأمريكي سيدني بولاك في الفيلم الشهير الذي يحمل العنوان ذاته، وصاحبة الأسلوب الفريد الذي يجمع العجائبي والجمالي والإيروسيّ والأرستقراطي في مزيج واحد؛ تخيّم عليه روحيّة ألف ليلة وليلة، والحكاية المفتوحة المتوالدة أبداً. لكنّ أندرسن يظلّ الاسم الأعلى شأناً ومكانة، وليس غريباً أن يضع كيركغارد كتاباً كاملاً عن واحدة من روايات أندرسن، وأن تستلهمه الروائية بليكسن في العديد من أقاصيصها. ولهذا فإنّ انتهاك نجمه العالي على هذا النحو ليس بالأمر العابر، أياً كانت زاوية النظر إليه.
والدنمارك، مثل كلّ بلدان العالم، تضمّ الكثير من المعالم التاريخية والأثرية والمعمارية والثقافية التي يحرص زائر البلد على مشاهدتها لأسباب شتّى. هنالك، بالطبع، قلعة كرونبورغ في هلسنغور، والتي تُعرف عالمياً باسم أكثر شهرة هو «قلعة إلسينور»؛ كيف لا، وقد خلّدها وليم شكسبير حين جعلها موقع مسرحية «هاملت»، حيث رائحة العفن تفوح من المملكة! غير أنّ تمثال «الحورية الصغيرة» هو الأشهر على الإطلاق، والأكثر اجتذاباً للزائر، والأشدّ فتنة في الواقع. ورغم وجود عشرات التماثيل الضخمة ذات الخصائص الفنية والتاريخية المميّزة المدهشة، فإنّ هذا التمثال بالذات هو الذي يرمز اليوم إلى العاصمة كوبنهاغن، وربما إلى الدنمارك بأسرها؛ تماماً كما هي حال برج إيفل في فرنسا، وساعة بيغ بن في بريطانيا.
هو أمر يبدو للوهلة الأولى مدهشاً حقاً، فالتمثال البرونزي الصغير يمثّل حورية بحر تجلس على صخرة قريباً من اليابسة، تستجمع يديها في حجرها، وتتجه بنظرها صوب البحر، مطرقة ساهمة حائرة. الحركة بسيطة تماماً، بل هي تبدو أقرب إلى السكون منها إلى الحركة. غير أنّ الناظر إلى التمثال سرعان ما يقع تحت سلسلة من خيوط السحر السرّية أو الخافية، ويخضع لسلسلة أخرى من التداعيات الدافعة إلى تأمّل عميق يتجاوز كتلة التمثال وصورته الخارجية، ويصنع مباشرة جملة معقدة من الرموز والدلالات والإيحاءات. فالتمثال نحته إدوارد إركسن في العام 1913 ليكون، في الأساس، بمثابة تكريم لشخص أندرسن وأدبه، وتحديداً عمله الأشهر «الحورية الصغيرة» الذي ذاع صيته في طول العالم وعرضه.
ولأنّ التمثال يلتقط الحورية في تلك اللحظة الفريدة من التبصّر ــ الحائر والجارح والحزين ــ في خياريَن أحلاهما مرّ؛ فإنّ إطراقة الحورية تظلّ مدعاة جاذبية عميقة لبني البشر من زائري التمثال، الحائرين بهذا القدر أو ذاك في خيار صعب من نوع ما، أو المتأكدين ضمناً أنهم سوف يكونون في موقع هذه الحورية ذات يوم… ذات قرار! هذه قوّة الأدب، باختصار بليغ، وليس من المستغرب أنّ تمثال أندرسن صاحب الأدب (وهو تمثال طريف وجميل يقع في ساحة بلدية كوبنهاغن)، لا يحظى بنسبة 10٪ من مجموع زائري تمثال «الحورية الصغيرة»؛ هذا إذا فطن إلى وجوده، أصلاً، آلاف المارّة من عابري المنطقة المزدحمة.
كأنّ التاريخ، إذ يثأر للكونغولية مارجوري، شاء إعلاء شأن الحكاية مقابل تدبير قفص ما للكاتب الكبير، صاحب الأقفاص!
المصدر: القدس العربي