لا تسوق صحيفة «الـغارديان» البريطانية أيّ أسباب دفعتها لاختيار الروائي الإسرائيلي لافي تيدهال كي ينتقي للقراء «أفضل 10 كتب عن إسرائيل» كما يقول عنوان المادة التي نُشرت مؤخراً في قسم الكتب. وبمعزل عن كونه إسرائيلي الجنسية، ولد في كيبوتز شمال فلسطين المحتلة، ليس من السهل الوقوف على «الصلاحيات» التي يتمتع بها تيدهال كي يحدّد 10 من مئات، أو بالأحرى آلاف، الكتب التي تناولت دولة الاحتلال؛ خاصة وأنّ خياراته لا تنمّ عن ضحالة تقدير وسوء طوية وجهل متعمّد، فحسب؛ بل ثمة ما يتجاوز ذلك وسواه إلى قلّة الأدب على وجه الدقة، وبمعانٍ تتجاوز الوقاحة والضغينة والحقد والاستخفاف بالعقول وطمس الحقائق وتزييف الجليّ الساطع. وهذه السطور لا تساجل حول خيارات تيدهال من الأدب الإسرائيلي، فهذا شأنه مع المؤمنين بوجود «أدب» تحت هذا المسمى، أصلاً وأوّلاً؛ وضمن تحقيب زمني لا يتجاوز 70 سنة من عمر الكيان الصهيوني، تالياً؛ فضلاً عن إشكاليات أخرى تتصل بلغات كتابة هذا «الأدب»، بين الإيديشية والعبرية والإنكليزية والفرنسية… وهذا، بالطبع، نقاش آخر متشعب ليس هنا مقام الخوض فيه. قلّة أدب تيدهال تكمن، أوّلاً، في زجّ عنوانين من الأدب الفلسطيني ضمن الدائرة الإسرائيلية ذاتها؛ من زاوية أحادية مفادها أنّ جغرافية الكيان الصهيوني الواحدة هي التي تضمّ سرديتَين، وليس لأنّ النصوص في العنوانين تمثّل أدباً فلسطينياً جديراً بالتسمية، متميّز الهوية وعريض الانتشار، كُتب ويُكتب بأقلام فلسطينيين في نطاقهم التاريخي وعلى أرضهم أو في الشتات والمنافي الكثيرة.
ذروة قلّة الأدب تتمثل في اختيار محمود درويش، دون سواه، عبر مختارات شعرية حرّرها وترجمها الناقد السوري منير العكش والشاعرة الأمريكية كارولين فورشيه، بمشاركة من سنان أنطون وأميرة الزين؛ وصدرت طبعتها الأولى عن منشورات جامعة كاليفورنيا في سنة 2003، تحت عنوان Unfortunately, It Was Paradise.(للأسف لقد كانت جنة).
وإذْ يعترف تيدهال بأنّ درويش هو «الشاعر الوطني»، فإنه يشدد على انتمائه إلى «أرضَيْن في جغرافية واحدة»، و»تتقاسمها تواريخ متصارعة»؛ مع معرفة درويش أنّ «امتلاك أرض ما، يحتاج إلى فعل تسمية»، وهذا كلّ ما يقوله تيدهال عن فلسطين والفلسطيني، في مستوى الوجود والحقوق والهوية. متعمَّد أيضاً، إذْ يصعب أن يكون جهلاً أو غفلة، حرص تيدهال على تعمية قارئ «الـغارديان»، خاصة الطراز غير الملمّ بحيثيات القضية الفلسطينية في حدودها الدنيا، أنّ هذا الأدب إسرائيلي كذلك، مثله مثل شمعون أداف وفيليب دك وباتيا غور وليا غولدبرغ والاسماء الأخرى التي يسردها ضمن لائحة البارزين في «الأدب» الإسرائيلي.
الكتاب الثاني عنوانه «فلسطين + 100: قصص من قرن بعد النكبة»، الذي حرّرته بسمة غلاييني وصدر سنة 2019 ضمن سلسلة Deep Vellum؛ وضمّ ترجمات إلى الإنكليزية لـ12 قصة قصيرة تأخذ منحى الخيال العلمي، وتتقرى ما بعد سنة 2048. الكاتبات والكتّاب هم سليم حداد، سلمى دباغ، ماجد كيال، أنور حامد، عماد الدين عيشة، عبد المعطي مقبول، تسنيم أبو طبيخ، أحمد مسعود، سمير اليوسف، روان ياغي، طلال أبو شاويش، ومازن معروف. هنا أيضاً، وبصرف النظر عن معلومات ببليوغرافية في ختام الكتاب تبيّن أمكنة إقامة بعض هؤلاء خارج فلسطين (الولايات المتحدة، بريطانيا، مصر، لبنان…)، يصرّ تيدهال على إغفال أية إشارة إلى أنّ هذه القصص لا تنتمي البتة إلى أيّ معطى إسرائيلي… ما خلا ذاك الذي يشير إلى أنهم حُشروا هنا، ضمن انتقاءات روائي إسرائيلي مكلّف من الـ»غارديان»! وفي سنة 1992 شاءت دولة الاحتلال منح «جائزة الإبداع» للروائي والقاصّ والسياسي الفلسطيني إميل حبيبي (1921 ـ 1996)، ليس هنا أيضاً من أيّ باب يفضي إلى أيّ تكريم لما كان الراحل يمثّله ضمن أسماء الأدب الفلسطيني داخل أراضي الـ48؛ بل على نحو جرى التشديد عليه وتضخيمه، من زاوية أنّ كلّ ما يُكتب داخل الكيان الصهيوني هو أدب إسرائيلي، أياً كانت لغته وكيفما سار محتواه. بعد سنوات، ارتأى يوسي ساريد وزير التربية والتعليم في دولة الاحتلال يومذاك، أن تُدرج نماذج من شعر درويش في منهاج للأدب متعدد الثقافات في المرحلة الثانوية، لأنّ «من المهمّ أن نعرف بعضنا البعض، والجهل ليس الوصفة المثلى للجوار الطيب»، كما قال. لكنّ الليكود، وأحزاب اليمين والمتدينين، أقاموا الأرض ولم يقعدوها ضد حكومة إيهود باراك، وانتهت المعمعة بتحكيم قاطع من الأخير: الطلاب الإسرائيليون ليسوا مستعدين، بعد، لقراءة درويش! ليست جديدة، إذن، هذه الازدواجية الإسرائيلية الفاضحة في التعامل مع الأدب الفلسطيني، داخل فلسطين المحتلة وخارجها في الواقع، ويستوي أن تزدوج النظرة عند رئيس حكومة أو وزيرة ثقافة (ميري ريجيف مثلاً، التي انسحبت من حفل الأوسكار الإسرائيلي لدى أداء أغنية من كلمات درويش)؛ أو عند روائي مثل تيدهال، عاش في أمريكا وجنوب أفريقيا وبريطانيا، ويكتب بالإنكليزية، ويوقّع عموداً في «واشنطن بوست» الأمريكية. ومنذ الشعار الصهيوني الأشهر «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»، وصولاً إلى غولدا مئير التي أنكرت وجود شيء اسمه شعب فلسطين، وما بعد البعد كثير متعاقب؛ لا حدود لقلّة الأدب الإسرائيلية حين يتصل الأمر بتعيين ما هو فلسطيني، بشراً وحجراً وشجراً، وتاريخاً وأدباً.
*القدس العربي