قبل مغادرة فلسطين المحتلة، إلى موسكو ثمّ القاهرة التي وصلها في خريف 1971، نشر محمود درويش أربع مجموعات شعرية؛ هي “عصافير بلا أجنحة”، عكا، 1960؛ “أوراق الزيتون”، حيفا، 1964؛ “عاشق من فلسطين”، الناصرة، 1966؛ و”آخر الليل”، عكا، 1967. مجموعة “العصافير تموت في الجليل” صدرت سنة 1970 عن دار الآداب في بيروت، رغم أنّ قصائدها كُتبت داخل الأرض المحتلة أيضاً؛ ومن المعروف أنّ درويش توقف عن إدراج “عصافير بلا أجنحة” ضمن أعماله الكاملة لأنه اعتبر الديوان “لا يستحق الوقوف عنده، كنت في سنتي الدراسية الأخيرة عمري لم يكن تجاوز 18 سنة عندما كتبت قصائده، وكان تعبيراً عن محاولات غير متبلورة”، وهو قرار شخصي يُحترم بالطبع، حتى إذا اختلف المرء معه بالمعنى النقدي والتأريخي.
هذه التفاصيل الببليوغرافية تُستعاد، هنا، في مناسبة عيد الميلاد لأنّ التوقف عند استعارات الصَلْب والصليب عند درويش يمكن أن تستحثّ مقاربات دراسية شتى لا تقتصر على الدلالات والاستخدامات البلاغية والنطاقات الرمزية، لشاعر ابن الجليل وفلسطين يسوع الناصري في نهاية المطاف؛ بل تتيح الذهاب أبعد، أو أعمق كما يُرجى، نحو عمارات شعورية وانعكاسات روحية وإسقاطات تاريخية تيسّر مفاتيح خافية حول صلات درويش بالمكان والزمان، وربما قراءاته غير التقليدية للحقّ الفلسطيني والصراع مع الرواية الصهيونية. وكان الصديق الباحث الفلسطيني حسين حمزة تناول هذا، وسواه من عشرات “الموتيفات” كما أسماها، في كتابه الموسوعي الرائد “معجم الموتيفات المركزية في شعر محمود درويش؛ الذي صدر عن مجمع اللغة العربية في حيفا، سنة 2012. وبين “صليب” و”صليبي” وصليبنا” و”مصلوب” و”صَلَبَ/ صُلب/ أصْلَبَ”، رصد حمزة 56 حالة على مدار مجموعات درويش؛ معتبراً أنها، في دلالتها العامة، ترمز إلى “التضحية، والفداء، والألم والعذاب”، وترتبط “ارتباطاً وثيقاً برمزية المسيح”؛ مشيراً، كذلك، إلى أنّ معظم تكرار الثيمة هذه جاء في “المرحلة الأولى، إذْ يصوّر معاناة شعبه من خلال رمزيته الدينية والتاريخية”.
وهكذا، في المجموعات الخمس الأولى، يتكرر الموتيف 38 مرّة، بتنويعات مختلفة من حيث الصيغة النحوية أو الدلالية أو المجازية؛ أو من حيث التلمّس المادّي للصَلْب والصليب، كما في الاشتغال على الخشب، أو الصلب على حجر، أو مسامير الصليب… وليس مدهشاً أنّ نموذجه الأوّل جاء في قصيدة “شاعر” التي تستهلّ المجموعة الأولى “عصافير بلا أجنحة”، وفيها يقول درويش: “وجاءني الصبح يا أوهام أخيلتي/ موتي! فقصّة شعبي البرحُ/ تلك الجراح تصلّي… والصليب على/ أبوابنا قدر، والناس ما برحوا”؛ وأمّا نموذجه التالي، الرابع، في “أوراق الزيتون”، فإنه يتجاوز فلسطين إلى إسبانيا فدريكو غارثيا لوركا: “عفوَ زهر الدم، يا لوركا، وشمس في يديكْ/ وصليب يرتدي نار قصيدة/ أجمل الفرسان في الليل… يحجّون إليكْ/ بشهيد… وشهيدة”. ضمن المجموعة ذاتها، وفي قصيدة “عن الصمود”، يبدو الصليب رديف الألم والمعاناة من جهة، ولكنّ القبول به هو رديف الخنوع والعار: “إنّا سنقلع بالرموش/ الشوكَ والأحزان… قلعا/ وإلامَ نحمل عارَنا وصليبنا/ والكون يسعى/ سنظلّ في الزيتون خضرته/ وحول الأرض درعا!”.
ليست خافية بالطبع ميول درويش، في تلك الحقبة، إلى التعبيرات النضالية ذات الصلة بكفاح الشعب الفلسطيني ضدّ الاحتلال واغتصاب الأرض والاستيطان، ممتزجة على نحو وثيق بنظائر تعبيرية طبقية تعكس انتماء درويش الإيديولوجي ضمن صفوف الحزب الشيوعي. مثير للانتباه، إلى هذا، أنّ تظهير مفردة الصليب ينقلب عند درويش إلى أنساق متغايرة في مستويات مجازية مفاجئة أحياناً، بالنسبة إلى شاعر لم يتجاوز الثلاثين من العمر وبحصيلة إصدارات لا تعدو خمس مجموعات؛ كما في الصليب/ قَدَر، والصليب/ منبر، والصليب/ عصا نغم، والصليب/ صهوة، والصليب/ ظِلّ، والصليب/ كهولة، والصليب/ مقاتل، والصليب/ عرش… وعلى أكثر من نحو، تبدو تلك التظهيرات بمثابة نُذُر مبكّرة، كشّافة وسبّاقة، حول ما سيستقرّ عليه درويش من جسارة فريدة في ارتياد أقاصي المجاز العالي ضمن هذه الثيمة تحديداً؛ ليس في سياق مجموعاته اللاحقة التي ستتعاقب وتغتني وترتقي باضطراد، فحسب، بل على وجه التحديد في “أحبّكِ أو لا أحبّكِ”، 1972، أوّل مجموعة ينجزها خارج الأرض المحتلة.
ففي “مزامير”، القصيدة الطويلة التي شهدت بعض مقاطعها استخدامَ درويش لصيغة قصيدة النثر في الكتابة الشعرية، يقول: “تدحرجتُ عن الصليب الممتدّ كالصحو/ في أفق لا ينحني”. يقول أيضاً: “نرسم القدس/ إله يتعرّى فوق خطّ داكن الخضرة. أشباه عصافير تهاجر/ وصليب واقف في الشارع الخلفي. شيء يشبه البرقوق/ والدهشة من خلف القناطر/ وفضاء واسع يمتدّ من عورة جنديّ إلى تاريخ شاعر”. وفي “مرّة أخرى” يحتفظ الصليب بصورته المادية المعتادة، لكنّ درويش يضعه في سياقات خاصة تتكفّل بتوسيع تجلياته ضمن استعارات غير مألوفة: “مرّة أخرى/ يفرّ الشهداء/ من أغاني الشعراء/ مرّة أخرى/ نزلنا عن صليبَينا/ فلم نعثر على أرض/ ولم نبصر سماء”. وأمّا في “لاعب النرد”، قصيدته الطويلة الأخيرة، فإنّ الصليب هكذا: “ومن سوء حظي أنّ الصليب/ هو السلّم الأزلي إلى غدنا”.
صلبان هي، إذن، وليست صليباً متماثلاً بأيّ معنى يُفقدها الخصوبة والثراء؛ وهي سيرورات صَلْب، فلسطينية أوّلاً، وكونية تالياً أو في آن معاً، تماماً على غرار الشاعر الذي تلمّس معانيها ودلالاتها ورموزها.
*القدس العربي