صبحي حديدي: سونتاغ والفوتوغراف: ألق الـ 50

0

هذا العام، 2023، يكون كتاب سوزان سونتاغ «حول التصوير الفوتوغرافي» قد بلغ سنّ الـ50، رغم أنّ طبعته الأولى صدرت سنة 1977 ولكنّ فصوله بدأت تُنشر تباعاً في مجلة New York Review of Books منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1973؛ بمقالة أولى حملت عنوان «التصوير الفوتوغرافي»، سوف تتوسع بعدئذ لتتصدر الكتاب ويصبح عنوانها «في كهف أفلاطون». وأن يكتهل هذا العمل أو حتى يشيخ، في حساب الأعمار مثلاً، أمر لا يعني البتة أنه فقد الكثير من سمات عنفوان الفتوّة والشباب والألق التي اخترق بها مشهداً حول هذا الفنّ لن يطول الوقت حتى يتسيده الفيلسوف البنيوي الفرنسي رولان بارت بكتابه «الغرفة المضيئة: هامش حول التصوير الفوتوغرافي»، 1980.
وإذا كان محور كتاب بارت هو التساؤل عمّا إذا كان التصوير الفوتوغرافي ينطوي على خصوصيات فنية متفردة، تميّزه بالتالي عن أشكال التعبير والتمثيل التخييلية الأخرى؛ فإنّ مسعى سونتاغ كان يتجاوز، بكثير في الواقع، هذه الغاية التي قد تبدو في الصميم جمالية ونقدية، إلى سجال معمّق حول بُعدَين على الأقلّ من أبعاد كثيرة تكتنف التصوير الفوتوغرافي: أنه أوّلاً، بحث عن الطرائد على غرار الكواسر المفترسة؛ وهو، ثانياً، سلوك تلصصي ينتهك الخصوصيات. تكتب سونتاغ: «هنالك شيء كواسري في فعل التقاط الصور، وأن تصوّر الناس يعني أن تنتهكهم، عن طريق رؤيتهم بما لا يمكن لهم أن يروا أنفسهم عليه، واكتساب معرفة عنهم ليس في وسعهم حيازتها، وتحويل الناس إلى موضوعات يمكن أن تكون رمزية».

وبين أبرز نتائج البُعدين، الافتراس والتلصص، أنّ الكائن المصوَّر فوتوغرافياً يتحوّل إلى موضوع/ طريدة، جُرّد من خصائصه الدنيوية المادية وحُوّل إلى موضوع في نطاق عالم آخر؛ وهذا مآل يُفقده الكثير من، أو حتى كامل، حقائقه وحقوقه التي يمتلكها من حيث التكوين، وقبيل التحويل الفوتوغرافي. المسائل المتناظرة مع هذا التشخيص أكثر تعقيداً، بالطبع، وتكفي نظرة سريعة على عناوين فصول سونتاغ كي يسهل على المرء إدراك مدى تشابك الإشكاليات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، الملموسة والمجازية، الواقعية والمتخيَّلة: أمريكا، مرئية عبر الصور الفوتوغرافية، معتمة؛ موضوعات سوداوية؛ النزعة البطولية خلف الرؤيا؛ أناجيل فوتوغرافية؛ الصورة – العالم».
في عداد تلك الإشكاليات ما تقرّ به سونتاغ من أنّ بعض مصوّري الفوتوغراف يلحّون على إظهار تعبيرات الداخل في موضوع التصوير، بينما يصرّ آخرون على أنّ دورهم ينحصر في «خدمة» الطبيعة والوفاء لما تحمله المخلوقات من عناصر تكوينية ظاهرة. بعضهم يعتبر عمله فكرياً وإبداعياً، مقابل من يعتبره محض استلهام ومحاكاة؛ وهذا يرى أنه يلتقط «منظراً داخلياً» تعبيرياً أو شعورياً، وذاك يساجل بأنه لا يلتقط سوى «المنظر الطبيعي» بصرف النظر عن جنس الموضوع. سونتاغ، من جانبها، لا ترى كبير فرق في هذه النوازع، ما دامت الصورة الناتجة لا تقترح طُرُزاً مختلفة من النوع الفوتوغرافي ذاته، وما دامت تواصل الافتراس والتلصص!
وفي فقرة حاسمة، ضمن نقاش الثنائيات هذا، تكتب سونتاغ: «ما يفعله مصوّرون موهوبون لا يمكن بالطبع توصيفه ببساطة إمّا في خانة الافتراس أو التطوّع. فالتصوير الفوتوغرافي نموذج أعلى عن الرابط المتبادل الموروث بين الذات والعالم، ونسخته من الإيديولوجيا الواقعية تفرض قسراً محوَ الذات في علاقتها مع العالم، إذْ يحدث أحياناً أنها تًشَرْعِن علاقة عدوانية مع العالم قوامها الاحتفاء بالذات، وأحد طرفَيْ الرابط يتمّ دائماً إعادة اكتشافه وإعلاء شأنه». وعلى هدي هذا السياق، ليس في وسع هذه السطور إلا أن تفكّر بمصوّرين كبار أمثال الأمريكي ألفرد ستيغلتز (1864-1946)، والفرنسي هنري – كارتييه بريسون (1908-2004)، والأرمني الحلبي/ الكندي يوسف كرش (1908-2002).
سونتاغ ليست غافلة عن النفور القاطع تجاه التصوير الفوتوغرافي لدى بعض كبار المبدعين، أمثال الشاعر الفرنسي شارل بودلير الذي رأى فيه «ألدّ أعداء الفنّ»، و»ملجأ كلّ رسام طامح، وكلّ رسام أشدّ إعياء وكسلاً من إتمام دراساته»؛ ولكنها، في المقابل، لا تُدرج العداء هذا في مسارب تأثيم الصورة الفوتوغرافية، وتذهب على العكس إلى فلاسفة كبار امتدحوا آلة التصوير. مثالها الأبرز، و»ناقد التصوير الفوتوغرافي الأكثر أصالة وأهمية» في نظرها، هو الفيلسوف الألماني والتر بنيامين؛ الذي نظر إلى التصوير الفوتوغرافي من زاوية تحوّل صنع حقبة بأسرها من خلال إعادة الإنتاج الميكانيكية للفنون. فإذا كان الفنّ قد انبثق أساساً من السحر والطقوس الدينية والشعائر الأدائية، فإنّ التصوير الفوتوغرافي «حرّر الفنّ من اعتماده التطفلي على الطقس»، حسب بنيامين.
وقد يكون صحيحاً أنّ كتاب سونتاغ «ضدّ التأويل»، 1966، هو الأشهر أو حتى الأبرز بين أعمالها، لاعتبارات تتصل جوهرياً بمناخات تلك الحقبة وهيمنة أطروحات مدرسة «النقد الجديد»، خاصة تثمين معطيات الشكل وحرّيات القراءة خصوصاً؛ إلا أنّ الاحتفاء هنا ببلوغ «حول التصوير الفوتوغرافي» سنّ الـ50 ليس مبعثه أنّ الكتاب يظلّ، في يقين هذه السطور بالطبع، الأوسع إحاطة، والأشد جسارة في إثارة الأسئلة، والأعمق سجالاً مع شتى الإشكاليات المقترنة بالتصوير الفوتوغرافي، فحسب؛ بل كذلك لأنه يبقى، حتى إشعار آخر، الرائد في ميدان شاسع متعدد الوسائط والتقنيات، انفجاري التطوّر والتبدّل، وأقرب إلى أيقونة العصر الكبرى، ذات… الشباب الدائم!

*القدس العربي