بحكم متابعتي للمشهد الشعري العربي، الحديث والمعاصر على نحو خاص، توجّب أن أتناول قصيدة الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف (1934-2021) ضمن مقاربات إجمالية غالباً، تتوقف عند الشكل وقصيدة التفعيلة، والمحتوى والقصيدة الملتزمة أو المسيّسة، وإشكاليات المجايلة في السنّ والمراحل والخيارات الأسلوبية. وكنت، في تسعة أعشار ما قادتني إليه قراءة يوسف، أشدّد على سمة كبرى في شعره هي السيولة العالية في اللغة، وكيف واصلت الدنوّ بدرجات حثيثة مما استقر اليوم تحت توصيف «نثر الحياة اليومية»؛ الأمر الذي يفسّر، كثيراً وليس جزئياً في ظنّي، انجذاب العديد من شعراء قصيدة النثر إلى مقترحات يوسف.
ولعلّي أستعيد هنا مناسبتين أتاحتا لي تكريم قصيدة الراحل، حيث كانت المناسبة بوّابة عبور، أكثر منها تعلّة، لتثمين منجز شعري رفيع وثرّ واستثنائي؛ طبع ستة عقود على الأقلّ من مشهد الشعر العربي الحديث والمعاصر. المناسبة الأولى كانت في القاهرة، أيار (مايو) 2003، خلال ندوة تكريم الشاعر المصري الكبير أمل دنقل (1940ـ1983)، حيث ناقشت ورقتي التأثيرات الحيّة والفاعلة والوظيفية التي مارسها، وما يزال يمارسها حتى أيامنا هذه، شعر دنقل؛ سواء في المشهد الشعري المصري الداخلي، أو في المشهد الشعري العربي إجمالاً. وكانت الورقة تبدأ من سؤال أوّل استهلالي، افتراضي بالطبع: كيف يمكن للمرء أن يتخيّل حركة المشهد الشعري العربي المعاصر لو أنّ دنقل بقي على قيد الحياة؟
على صعيد عربي تساءلت هكذا: هل كان دنقل سيحمل مع شعراء كبار أمثال محمود درويش وسعدي يوسف بعض أعباء تحديث شكل قصيدة التفعيلة على مستوى اللغة، والموضوعات، والخيارات الملحمية والغنائية، والبحث المعمّق في البنية الإيقاعية العربية بما يفضي إلى عمارات موسيقية متطورة وجديرة بنهايات القرن؟ ذلك لأنّ دنقل حين كتب»بكائية لصقر قريش»، كانت قصيدته هذه تتلاقى مع مجموعتَيْ درويش «محاولة رقم 7» و»تلك صورتها وهذا انتحار العاشق»؛ وفي المقابل كان يوسف يقطع خطوة متميزة كبرى على طريق استكمال ملامح مشروعه الشعري، الذي سيستقرّ نسبياً طيلة عقد ونصف بعد صدور «كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة». من الطبيعي أن يتخيّل المرء الذرى التي كان مشروع دنقل مرشحاً لها بدوره، أسوة بدرويش ويوسف، لو لم يعاجله السرطان بغتة، ويقطع على نحو تراجيدي الدورة الطبيعية لنضج أدواته.
المناسبة الثانية كانت في الرباط، سنة 2009، حين شرّفني الأصدقاء في «بيت الشعر» المغربي بترؤس لجنة تحكيم جائزة الأركانة العالمية للشعر، التي ذهبت يومها إلى يوسف بإجماع الرأي؛ بعد أن كانت قد ذهبت، قبله مباشرة، إلى محمود درويش. وكان تقرير لجنة التحكيم جهداً نقدياً معمقاً، وموجزاً مكثفاً حسب مقتضى الحال، سعى إلى تلمّس فرادة تجربة شعرية فذّة، لشاعر «محنّك، فطن، ومبتكر لا يمكن التطرّق إلى الشعرية العربية المعاصرة، واستثارة كبريات قضاياها وأسئلتها، سيروراتها وتمفصلاتها، بمعزل عن استحضار البصمة القوية والنوعية التي كانت له، هو بالذات، في هذا الشأن: معاجم وتوليفات، موضوعات وتلوينات، وأخيلة وتمثلات». والجائزة بذلك كانت تسهم في تكريم «منجز شعري مديد ثريّ، يغطي حوالي ستة عقود، ويؤشر على كدّ تصوّري عصامي وملحاح، وعلى مثابرة كتابية جديرة بالإشادة، كانت لهما آثار ملموسة ومحفزة».
وخلال أمسية تكريم الفائز، في مسرح محمد الخامس، ارتجلتُ كلمة قصيرة عدت في بعض فقراتها إلى جانب أوّل في شخصية يوسف الشعرية، وهو أنه بدأ وظلّ شاعر تفعيلة، لكنّ السيولة التعبيرية العالية التي طبعت لغته الشعرية، وتشكيلاته الإيقاعية، وموضوعاته التي أضاءت التفصيل اليومي العابر، مثلما التقطت الباطن العميق في هواجس الجموع المهمشة، والوجود الكسير والشقيّ والمنفيّ، جعلته أحد كبار آباء قصيدة النثر العربية المعاصرة. ذلك يسبغ الكثير من المعنى على تصريح درويش، عن يوسف: «قد أجازف بالظنّ أنه، ودون أن يكتب قصيدة النثر السائدة اليوم، أحد الذين أصبحوا من ملهميها الكبار».
جانب آخر هو أنّ خيارات يوسف السياسية والإيديولوجية، وانحيازاته المزمنة إلى القضايا الكبرى، الخاسرة غالباً ولكن النبيلة المشرّفة دائماً، لم تُلحق إلا القليل من الأذى الفنّي بقصيدته على امتداد عقود التجريب والارتقاء الطويلة التي عاشتها تلك القصيدة؛ والأرجح أنّ خصائصها الفريدة، التي تنامت وتعاظمت على نحو مضطرد، لم تنحسر أو تتراجع إلا خلال العقدين الأخيرين من مشروع مديد شهد الكثير من النقلات الكبرى والمحطات الفاصلة. وبصفة عامة، فإنّ الشاعر المنحاز إلى الحرّية والخبز والكرامة الإنسانية والوطنية، لم يكن أقلّ انحيازاً إلى حقوق الفنّ الشعري، وحرّية القصيدة، وجماليات الإبداع.
وفي حوار مع حسن النجمي قال يوسف: «أحياناً أضع خريطة العالم أمامي، لأعرف في أيّ أراضٍ حللتُ، مبتدئاً بالعراق، غير منتهٍ إليه. لقد منحني الترحال سعادة المستكشف، وخفّة جوّاب الآفاق. منحني فرصة التفرّس في الأماكن والناس والثقافات، واحترام الأماكن والناس والثقافات». ومنحنا، نحن القرّاء، أكثر من بوّابة عريضة إلى شعر رفيع بديع نتلهف على استقباله؛ كما منح أصدقاءه الشعراء سلّة متكاملة فائقة من خلائط التأثير، عبر سيولة التعبير وفطنة القصيدة بين عناصر أخرى كثيرة باقية وراسخة الحضور.
*القدس العربي