يشرف الناقد والأكاديمي المصري رشيد العناني على سلسلة متميزة، وبالغة النفع والعون للقارئ العادي وللباحث في آن معاً، تصدر بالإنكليزية وتحمل اسم «دراسات إدنبرة في الأدب العربي الحديث»، تنشرها الجامعة ذاتها؛ وقد طُبعت منها 20 دراسة منذ سنة 2012، ويُنتظر صدور 4 دراسات أخرى خلال العام 2022. أحدث ما أُتيح لهذه السطور الاطلاع عليه هو كتاب الناقدة والأكاديمية المصرية ياسمين رمضان، أستاذة اللغة العربية ومديرة «البرنامج العربي» في جامعة أيوا، وصدر تحت عنوان «الفضاء في القصة المصرية الحديثة».
ولأسباب ليس هنا المقام المناسب للخوض فيها، تميل رمضان إلى تفضيل مفردة Space للتعبير عن صيغة الفضاء المتعدد، الأوسع من مدلولات المكان الجغرافي أو السكني أو العمراني المديني أو الريفي؛ الأمر الذي أفسح أمامها فرصة استقراء مرادفات أخرى تتصل بالمضمار والبيئة والاستيطان والإقامة والترحّل وما إلى ذلك. وبقدر ما يبدو هذا الخيار صائباً من الوجهة المنهجية والبحثية، والنقدية استطراداً؛ يبدو، من جانب آخر، وكأنه الوحيد الذي يُحسن خدمة المقاربات المركزية في الكتاب، وكذلك نوعية الآداب التي أنتجها الكتّاب الـ11 الذين وقع اختيارها عليهم واصطفتهم من بين عشرات كتّاب القصة في مصر.
هؤلاء هم يحيى الطاهر عبد الله، إبراهيم عبد المجيد، رضوى عاشور، إبراهيم أصلان، محمد البساطي، جمال الغيطاني، صنع الله إبراهيم، إدوار الخراط، يوسف القعيد، عبد الحكيم قاسم، وبهاء طاهر. وهم، كما استقرّت تسميتهم في الأرشيف الأدبي ومسميات النقد والصحافة، «جيل الستينيات» ورواياتهم ومجموعاتهم القصصية تغطي الفترة بين 1966 و2012؛ وللكاتبة حكمة، بالطبع، في تحديد هذه الفترة الزمنية لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية فارقة ونوعية، شهدتها مصر وانعكست في أعمال هذه الكوكبة. يميزهم، بدرجات متفاوتة وأساليب مختلفة ومضامين متنوعة بالطبع، أنّ القصة التي كتبوها «ركّزت على الذاتي، وعلى اندماج الأحلام بالواقع، ملتقطة العالم الذي ازداد فيه اغتراب الفرد». بعضهم استلهم «الموروث الأسطوري أو التاريخي أو الفولكلوري لنسف أفكار المسار الخَطّي والتقدّم»، وبعضهم الآخر استلهم شكلاً «فوق واقعي التقط التفاصيل العابرة لوجود الحياة اليومية»، وقدّموا نتاجاً يمزج بين السيرة الذاتية والتخييل القصصي، معتمدين غالباً على الصحافة والتاريخ، والتجريب في شكل السرد.
هذا تشخيص هيكلي عريض، غنيّ عن القول، يليق بأطروحة أكاديمية تتوخى المقدار الأعلى من التصنيف الصارم، والمقدار الأقلّ من التنميط الفضفاض؛ ولا ملامة هنا ما دامت رمضان تفلح، كثيراً كما يتوجب القول، في الموازنة بين قطبَيْ المعادلة الشاقة. لكنها، ربما لحسن حظّ قارئها المتخصص في الغرب تحديداً، تلجأ أيضاً إلى تصانيف أخرى سابقة، ذات مصداقية خاصة لأنها صدرت عن أحد الأسماء قيد الدراسة في الكتاب، أي الخرّاط في مساهمته الشهيرة «الحساسية الجديدة: مقالات في الظاهرة القصصية»، 1993، من جهة أولى. ولأنّ مسعى الخرّاط كان، من جهة ثانية، قد تقصّد مزجاً مماثلاً بين التصنيف والتنميط، من داخل الصفّ تارة أو على سبيل الانشقاق عن بعض مواضعاته تارة أخرى.
وكما هو معروف، كان الخرّاط قد ساجل حول وجود خمسة تيارات جمالية رئيسية لكتّاب «جيل الستينيات»، في مصر والعالم العربي أيضاً: 1) تيّار التشيء أو التبعيد أو التغريب، وأمثلته بهاء طاهر وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي، ومن العرب زكريا تامر؛ و2) التيار الداخلي، أو العضوي، أو تيار التورّط على الطرف الآخر النقيض من التشيء، وأمثلته قليلة بينهم الخرّاط نفسه؛ و3) تيّار استيحاء التراث العربي التقليدي التاريخي والشعبي، كما عند الطاهر عبد الله والغيطاني؛ و4) التيّار الواقعي السحري، أو تيّار الفانتازيا والتهاويل، عند عبد المجيد؛ وأخيراً 5) التيّار الواقعي الجديد، ويعترف الخرّاط أنه لا يسمّيه هكذا إلا «افتقاراً لتسمية أدقّ وأوفى»، ومثاله صنع الله إبراهيم والقعيد.
لكنّ واحدة من أبرز فضائل كتاب رمضان أنها لا تتوقف عند خطاطات الخرّاط هذه، رغم إغواءاتها العديدة، بل تستأنس بها في خلفية رصد الظواهر المعقدة، السياسية والاجتماعية والجمالية، التجريبية والحداثية على وجه الخصوص، التي حكمت نتاج ذلك الجيل. التأثيرات، على سبيل المثال، لا تبدأ من شخص جمال عبد الناصر والناصرية عموماً، ولا تنتهي عند المناخات السياسية/ الثقافية التي أشاعتها مجلات مثل «الطليعة» و«غاليري 68»، وتمرّ حتماً بمؤثرات عميقة مثل السجن والمنفى وسوسيولوجيا سياسات الانفتاح والسلام مع دولة الاحتلال، من دون إغفال المتغيرات العاصفة التي طرأت على مشهد السرد القصصي المصري والعربي والعالمي. ولافت أنّ منهجية رمضان التعددية، التي يحدث أنها تصالح بين ميشيل فوكو وميخائيل باختين عند تتبّع إشكالية الزمان/ المكان في الرواية، لا تفشل كثيراً في تقريبهما من ملاحظات دافيد هارفي النقدية حول الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، ودور الرأسمالية في إنشاء المكان.
سطور هذا العمود سعت إلى إنصاف كتاب رمضان ضمن ما يسمح به المقام، الأمر الذي لا يلغي ضرورة وقفة أخرى مطوّلة عند كلّ من فصوله الخمسة، وخاصة الأقسام المكرّسة للفضاء الريفي وجدل التخييل المتغاير بين مكانَين مركزيين مثل القاهرة والإسكندرية؛ ولا يعفي من مراجعة أكثر إحاطة بخلاصات عمل نقدي متميّز، يرتاد فضاءات قصصية شاسعة واسعة.
*القدس العربي