الأرجح أنّ المصادفة المحضة لم تكن وراء ابتداء العام 2020 في سوريا بلقاء جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رأس النظام السوري بشار الأسد، احتضنته في دمشق الكاتدرائية المريمية، مقرّ كنيسة أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، واقترن بجولة بوتين في الجامع الأموي؛ وأن يُختتم العام بعودة الأسد إلى رياضة التفلسف المفضلة عنده، ولكن ليس من أيّ منبر خطابي سياسي أو حزبي أو إعلامي، بل من جامع العثمان خلال المشاركة في الاجتماع الدوري الموسع الذي تعقده وزارة أوقاف النظام ويحضره «السادة العلماء والعالمات». بركات البطريركية الأرثوذكسية الروسية لم تخلف وعداً مع بوتين، ولم تبخل بدعم أو تزكية مقابل حرص الكرملين على تحويل هذه العلاقة إلى تحالف صريح يطمح إلى تمثيل 300 مليون مسيحي أرثوذكسي على نطاق العالم؛ وكان أمراً طبيعياً أن يجسد بوتين هذه الصياغة في دمشق تحديداً، وعلى أنوار الشموع الكنسية التي ألقت المزيد من الأضواء على تفقّد القائد بوتين لقوّاته العسكرية المرابطة هنا وهناك لمدّ النظام السوري بأسباب البقاء.
من جانبه افتقد الأسد، طوال العام، فرصة سانحة لممارسة التفلسف الذي أدمنه منذ الأشهر الأولى لتدريبه على وراثة أبيه، فاغتنم اجتماع وزارة الأوقاف هذا كي يشرّق ويغرّب، ابتداءً من الفارق بين «القضايا المعيشية والأمنية» مقابل «القضايا الفكرية»؛ مروراً بـ»وضعنا في العالم الإسلامي بشكل عام»، حيث افترض الأسد أنه «لا يوجد مخفر شرطة لأنه لا يوجد قانون دولي ولا توجد مؤسسات تضبط»؛ وليس انتهاء بالعلمانية والليبرالية و»الليبرالية الحديثة» والزواج المثلي والمخدرات وفصل الدين عن الدولة. لم تغب عن جلسة التفلسف هذه تأملات حول اللغة العربية، مثلاً: «حامل الفكر والثقافة بشكل عام قبل أن تكون لغة القرآن.. هي الحامل الطبيعي.. عندما تندثر هذه اللغة أو تتراجع أو تضعف وهذا الشيء كلنا نراه في المجتمع بشكل واضح وبشكل خطير ومخيف فيجب أن نعرف أن هناك حاجزاً وهناك غربة بين الإنسان وثقافته».
بين الكنائس والمساجد كانت الاحتلالات الخمسة التي تخضع لها سوريا، إسرائيلياً وإيرانياً وروسياً وأمريكياً وتركياً، تواصل اشتغالاتها دون كلل أو ملل؛ مع تواطؤ وتكامل تارة، ثنائياً أو ثلاثياً أو رباعياً أو حتى خماسياً، أو تعارض وتباين يعقبه غالباً توافق وتفاهم واقتسام تارة أخرى. ولم تكن مصادفة عابرة، هنا أيضاً، ألا يُختتم العام من دون بدعة «العدالة التصالحية» التي تفتق عنها ذهن غير بيدرسون، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا، في إحاطته الأحدث إلى مجلس الأمن الدولي، وعجزت الترجمة إلى العربية عن تغطية عيوبها الاصطلاحية قبل تلك القانونية والدلالية. ذلك لأنّ الأريحية التي قادت بيدرسون إلى سلوك كهذا لم تكن تضيف بُعداً خاصاً إلى واقع الاحتلالات والاستهانة بإرادة البلد وشعبه ومآلات انتفاضته، على يد المبعوث الأممي هذه المرّة، فحسب؛ بل كانت، على قدم المساواة، تؤشر على إدقاع فريق في «المعارضة» يواصل اجترار أوهام تمثيله للسوريين عبر خرافات شتى أحدثها اللجنة الدستورية، ويرتكب استطراداً المزيد من الحماقات والموبقات والتنازلات.
لكنّ المصادفة شاءت، وكانت بليغة المغزى وعالية التوافق هنا تحديداً، أن يسجّل العام 2020 الذكرى الخمسين لانقلاب حافظ الأسد على رفاقه وحزبه، في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، المسمّى بـ»الحركة التصحيحية»؛ وأن يسجّل أيضاً الذكرى العشرين لتنصيب الوريث بشار الأسد، في 17 تموز (يوليو) 2000 بعد رحيل الطاغية الأب في 10 حزيران (يونيو) من العام ذاته. ولقد توجّب أن تمرّ الذكرى الأولى وحصاد الطاغية الوريث لا يقلّ خراباً ودموية عن حصاد أبيه، لاعتبار جوهري أوّل هو أنه امتداد مطابق لنهج الطاغية الأب، على الأصعدة كافة في واقع الأمر وبصرف النظر عن فوارق هنا وهناك تخصّ أسلوب الأب وتجربته وحصيلته السياسية والعسكرية والاجتماعية والعشائرية، التي كانت لنشأته التربوية تأثيراتها الكبرى في سلوكه وخياراته وشخصيته إجمالاً.
صحيح، بصدد النشأة تلك، أنّ إطلاق صفة «العلوي» على النظام الذي شيده الأسد الأب بعد انقلابه ليس دقيقاً، بالمعاني السياسية أو السوسيولوجية أو حتى الاصطلاحية المجردة، لسبب جوهري أوّل هو أنّ مكوّنات النظام، سواء في الأجهزة الأمنية أو الجيش أو الحزب أو مجلس الوزراء أو الإدارات الكبرى، ضمّت السنّة والدروز والإسماعيليين من الطوائف المسلمة، والكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت من المسيحيين. وهذا راجع إلى طبيعة التركيب التعددي للمجتمع السوري ذاته، أولاً؛ كما يعود، ثانياً، إلى أن الأسد سعى إلى إقامة صيغة من التواطؤ بين الأقليات، في مواجهة الأغلبية السنية (أكثر من 70% من سكان سوريا)، التي جُرّد معظم أبنائها من الفاعلية في الأجهزة الأمنية والجيش، وحُرموا من الدخول إلى حلقة القرار الفعلية الأضيق في قلب النظام. وفي المقابل، عقد النظام تحالفات وثيقة مع كبار تجّار السنّة في دمشق وحلب والمهاجر بصفة خاصة، ودخل بعض كبار الضباط والمسؤولين العلويين في شراكات معهم (رفعت الأسد، شقيق الأسد الأب، كان أحد أبرز الأمثلة).
عن الذكرى الثانية، تنصيب الوريث، لعلّ الذاكرة السورية الحديثة والمعاصرة لن تملّ في أيّ يوم من استعادة «الكرنفال» الذي شهدته أروقة السلطة وما يُسمّى «مجلس الشعب» لتتويج الأسد الابن، على نقيض من سلسلة مواضعات وأحكام «دستورية» كان الأسد الأب قد وضعها بنفسه. حلقات المسلسل بدأت بعد أسابيع قليلة أعقبت مقتل الوريث المكرّس، باسل، في حادث سيارة سنة 1994؛ فانقلب الشقيق بشار من طبيب إلى ضابط عسكري تخرّج من الكلية الحربية برتبة نقيب، رغم أنّ القوانين المرعية تنصّ على تخرّجه برتبة ملازم. بعد شهرين جرى ترفيع النقيب إلى رائد، وكان طبقاً للقانون يحتاج إلى أربع سنوات قبل الترفيع؛ ثمّ انقضى عام يتيم قبل أن يُرفّع الرائد إلى عقيد، متجاوزاً رتبة المقدّم؛ ثمّ، بعد ساعات أعقبت وفاة أبيه، إلى فريق أوّل، وقائد عامّ للجيش والقوات المسلحة. خارج الجيش، وعلى صعيد مدني، بات الفتى أميناً عاماً قطرياً لحزب البعث الحاكم، من دون المرور بعضوية القيادة القطرية؛ ثمّ أميناً عاماً قومياً، حتى من دون انعقاد المؤتمر القومي للحزب؛ ومرشحاً لرئاسة الجمهورية، بعد اجتماع كرنفال «مجلس الشعب» وتخفيض سنّ الـ40 كشرط للترشيح…
ومن عجائب المصادفات أنّ العام 2020 شهد، أيضاً، رحيل عبد الحليم خدام، الذي كان نائباً للأسد الأب ساعة رحيل الأخير، وكان وراء غالبية القرارات التي نقلت الأسد الابن إلى سدّة الترفيع وقيادة الجيش والترشح للرئاسة والتنصيب. بذلك فإنّ خدّام لم يكن صانع سياسة خارجية بقدر ما كان منفّذاً بارعاً طيّعاً مطيعاً، كما في الملفّ اللبناني منذ 1975 بصفة خاصة، حين عُرف بصفة رجل الأسد الأشدّ غطرسة وعنفاً لفظياً وهوساً باستخدام الهراوة الغليظة. ولقد ظلّ قريباً من موقع القرار السياسي الخارجي، محاصِصاً في دائرة الفساد الأضيق، متعبداً للفرد الأسد، مؤمناً بسلطة سلطة الحزب الواحد، وعاشقاً للأحكام العرفية ومحاكم أمن الدولة. وهكذا كان «الانشقاق» الذي لجأ إليه أواخر 2005 بمثابة فرار من مركب آيل إلى غرق، وليس اعتراضاً على سياسات النظام في أي حال.
خمسون الطاغية الأب وعشرون وريثه الطاغية الابن، وحصيلة من الدم والدمار والخراب وهيمنة الاحتلالات؛ حيث لا يتوجب أن يغيب عن هذا المشهد السوري إدقاع المعارضة، في تسعة أعشار تمثيلاتها ومؤسساتها.
*القدس العربي